للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

استعداد بأثر الوراثة أو أثر البيئة. وهذا ما صنعه في ترجمته لنفسه، فهو لا يروي سيرة حياته بكل ما فيها، ولا يكتفي بتسجيل ذكرياته عن الأشخاص والأحداث كما مرت في حياته، أو يكتفي برواية مواقفه ومغامراته بمعزل عن أي قيمة اجتماعية أو موقف أخلاقي، بل يجعل ما يختار روايته من ذلك موضع تأمل، ومادة لا بد لها من تفسير. ومن ثم نستطيع أن نقول: إن كتاب "أنا" لا يحكي لنا قصة حياة العقاد بقدر ما يعكس محاولة الكاتب فهم نفسه.

وتسلمنا هذه الحقيقة العامة إلى أسلوب العقاد في تناول كل عنصر من العناصر التي أدار عليها الكلام في فصول ذلك الكتاب، ذلك أنه يدخل إلى الحديث -في الأغلب الأعم- من مدخل فكري وتأملي عام، يطول أحيانًا ويقصر أحيانًا، وكأنه شرح أو تبرير لما سيتحدث به عن نفسه فيما بعد. ولنقف -على سبيل المثال- عند بداية الفصل السابع من الكتاب لنجد مصداق هذا.

في مستهل هذا الفصل يتحدث العقاد -تحت عنوان "طفت العالم من مكاني"- حديثًا مستفيضًا عن كبار الرحالين وكيف أنهم تملكهم -على الرغم منهم- "ملكة شخصية" يصح أن تسمى عبقرية السياحة، وكيف أن هذه الملكة الشخصية تستمد أصولها من ملكة قومية، حيث خرج هؤلاء الرحالون من أمم قد تعود أبناؤها الرحلة، كالعرب؛ لأنهم أبناء بادية، والفينيقيين والإغريق والبنادقة والبرتغاليين والإنجليز؛ لأنهم جميعًا بحريون وملاحون. ثم ينتقل إلى الحديث عن نوع آخر من الرحلة في غير المكان, وهي الرحلة في داخل النفس، أو في عالم الخيال، حيث تتم الرحلة دون أن يفارق الإنسان مكانه خلال عشرات السنين، كأبي العلاء المعري، الشاعر العربي، رهين المحبسين، وكجول فيرن، الكاتب الفرنسي المشهور في عالم القصص العلمي.

حتى إذا ما انتهى من تقرير هذين النوعين من الرحلة، راح يحدثنا عن نفسه، كيف أنه ينتمي إلى الرحالين بغير انتقال، على الرغم من أنه في صباه كان مشوقًا للسياحة في مشارق الأرض ومغاربها. إنه يرد ذلك الشوق القديم إلى ما يسميه "عارضًا من عوارض الصبا التي تنزوي مع الزمن وراء غيرها من الميول المتمكنة في السليقة"١. وكان الميل المتمكن من السليقة لديه هو حب العزل التي نشأ عليها وورثها من أبويه٢. فهو إذن أميل إلى ذلك النوع من الرحلة الذي يتحقق دون الانتقال في المكان, على أنه يعتقد أنه لم يخسر بذلك شيئًا مما يحصله الرحالون المتنقلون.


١ نفسه ص١٧٧.
٢ نفسه ص١٧٨.

<<  <   >  >>