جهدهم إلى تكوين الأبيات الرنانة التي تتمتع بوقع موسيقي كبير، والتي تغلب عليها النزعة الخطابية. وهذه الناحية في شعرهم هي التي غالبًا ما تروع القارئ أو السامع بصفة خاصة، وهي تلهيه عما وراء هذه الزخارف والتلوينات الصوتية من قيم شعرية، صحيح أن عنصر الموسيقى عنصر لازم ومهم في العمل الشعري، ولكن ينبغي أن نفرق دائمًا بين موسيقى سطحية مصنوعة، وموسيقى تنبع من النفس لتنتقل إلى صميم النفس. وربما كانت موسيقى حافظ أكثر هدوءًا منها عند شوقي، ولكنها -بعد هذا- لا تجاوز الأذن. أما ظاهرة البناء الشعري فهي قائمة في طريقة نظم القصيدة، وفي الاعتبارات الأساسية الخاصة بمفهوم العمل الشعري. فلم يكن شعراء المدرسة القديمة ينظرون إلى العمل الشعري بوصفه عملا متكاملا، وبنية عضوية حية، تتفاعل عناصرها جميعًا كما تتفاعل الأعضاء المختلفة في الجسم الحي، ولكنهم كانوا ينظرون إلى القصيدة على أنها عدد من الأبيات قد يقل وقد يكثر. ومن هنا تحددت طريقتهم في نظم القصيدة، فهم لا ينظمون القصيدة وإنما ينظمون أبياتًا. ينظمون البيت أو البيتين على فترات نفسية متباعدة، ثم إذا هم يضمون هذه الأشتات بعضها إلى بعض ليؤلفوا منها عددًا من الأبيات يسمونه القصيدة. وهذا معناه أن القصيدة تفقد نسقها الفني، فإذا بها انطباعات شتى نتيجة لوقوع الشاعر في حالات نفسية متباعدة ومختلفة. وليست نتيجة ذلك فقدان النسق الفني في القصيدة فحسب، بحيث يفتقد فيها الخيط النفسي الذي ينتظمها من أولها إلى آخرها، بل إن ذلك يورط الشاعر في كثير من الأحيان في أن يكرر نفسه، وأن يعود إلى عرض معانٍ سبق أن تناولها في أجزاء أخرى. وهذا واضح عند شوقي، فقد كان يبدأ المعنى ويستوفيه أو يكاد، ثم إذا به بعد عشرة أبيات أو يزيد يعود إليه مرة أخرى، فإذا بمحصل القصيدة قليل، برغم كثرة أبياتها.
وكذلك كان حافظ، فقد فقدت القصيدة عنده نسقها الفني، كما ظهر فيها التكرار واضحًا، وهذا من شأنه أن يشكك القارئ في أن الشاعر يقدم إليه أجزاء من خبراته وانفعالاته، ومن انطباعاته الخاصة، ويوحي إليه أن الشاعر إنما يتكلف الحديث في الموضوع تكلفًا، وأنه في كثير من الأحيان لا يجد ما يقوله, فيقول كلامًا كل ما فيه من شعر أنه موزون مقفى.
وأما الظاهرة الثالثة، وهي طريقة تناول المعاني وعرضها، فإن الطريقة التقليدية تقوم على أساس أن يعرض الشاعر المعنى، سواء أكان من عنده أم كان معنى متداولًا, أن يعرضه في صورة لفظية خاصة، وإن كان ما يميزه عن غيره هو هذه الصورة. والحق أن هذا الاعتبار يدعو إلى الشك في فهم هؤلاء الشعراء لمهمتهم، فليست مهمتهم أن يعيدوا بناء المعاني التي ألفها الناس أو سبق أن تناولها الشعراء، وإن كان ذلك في صورة