الظاهرة. وهي هنا أننا حين نقرأ قصيدتيهما نحس أننا نقرأ شعرًا بيننا وبين لغته شيء من التباعد، فليست لغة شعر شوقي وحافظ هي اللغة التي تستمدّ من واقع حياتنا عناصر التعبير، ولكنها تستمد هذه العناصر من مصدر آخر يبعد بها عن ذلك الواقع.
وظاهرة التصوير تكشف لنا بوضوح عن هذه القضية. وقد سبق أن تحدثنا عن خصائص الصورة في الشعر القديم, وهذه الخصائص هي ذاتها خصائص الصورة في شعر شوقي والمدرسة التقليدية. وفي قصيدة "شكسبير" نقرأ له:
بمن أماتك قل لي: كيف جمجمة ... غبراء في ظلمات الأرض جوفاء
"كانت سماء بيان غير مقلعة ... شؤبوبها عسل صاف وصهباء"
فهو هنا يصف جمجمة شكسبير وإنتاجها الغزير، فإذا به يصور هذا الإنتاج بأنه عسل وخمر. ولست أدري هل يثير إنتاج شكسبير في النفس ما يثيره العسل؟! إن العسل يثير الشعور بالحلاوة، وقد يثير في النفس "ميوعة"، وإنتاج شكسبير يثير في النفس المرارة أو "المزازة" أو هما معًا أو شيئًا مثلهما. والخمر وسيلة من وسائل الانطلاق من الحياة والفرار من الواقع، وإنتاج شكسبير يغوص بنا في أعمق أعماق النفس البشرية، ويعمق في نفوسنا الإحساس بالحياة وفهم حقائقها، فالصورة إذن في وادٍ والمشاعر التي كان ينبغي تصويرها في وادٍ آخر. وليس ذلك إلا لأن الصورة لم تتجاوز الشكل المحسوس، ولم يستغلّ الشاعر إيحاءاتها استغلالًا صالحًا، ولم يلتفت إلى إشعاعاتها النفسية؛ ولذلك كانت صورة كاذبة؛ لأنها تصور شعورًا كاذبًا. فالشاعر لم ينفعل بشخصية "شكسبير" ويتأثر بها قبل أن يصورها لنا، بل راح يستخدم مقدرته على نظم الكلام في أن يصوغ قصيدة في مناسبة ما كان يجدر به ألا يشارك فيها وهي ذكرى "شكسبير". ومن هنا حمل نفسه على شيء لم ينفعل به، وكأنه يكتب موضوعًا إنشائيًّا كالذي يكتبه التلاميذ في المدارس مكرهين "تقسيمة القصيدة إلى مقدمة وموضوع وخاتمة أثر من آثار ذلك".
وإذا بحثنا عن السبب في فساد هذه الصورة وجدناه في تأثر شوقي بقيم خاصة تقليدية لبعض الألفاظ التي استخدمها القدامى وصوروا من خلالها مشاعرهم الخاصة ومثلهم العليا. كان من أبرز ما يشخص السراة أن يقدم الرجل لضيوفه العسل والخمر, وهو حينما يقصد إلى التمدح والتفاخر لا يفوته أن يذكر ذلك. ومن هنا أصبح للفظتي العسل والخمر هذه الدلالة على عظمة الشخص الذي يقدمها بسخاء إلى الآخرين،