للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يكتبا فيه. وحافظ هنا يشترك مع شوقي في ظاهرة عامة هي أنه كان دائمًا يقف خارج الموضوع ويطل عليه من بعيد.

فإذا ما قرأنا قصيدة العقاد -وقد أخرنا الحديث عنها لأننا نريد أن ننظر إليها على أنها تمثل المذهب المقابل في الشعر، وهو الذي يقوم على الفهم الحديث- وجدنا أن القصيدة لم تكن -فيما نرى- "بنية حية"، بل كانت مجموعة من المعاني تدور حول موضوع واحد، ولكنها -برغم ارتباطها بموضوع واحد- لم تكن أجزاؤها ترتبط فيما بينها ارتباطًا عضويًّا. ومنهج العقاد في قياس البنية الحية للعمل الفني هو أن يغير من وضع أبيات القصيدة وترتيبها أو يحذف منها، أو يزيد فيها أبياتًا على نسقها، وقد طبعت قصيدته طبعتين مختلفتين، فهناك أبيات أثبتت في إحدى الطبعتين وليست مثبتة في الأخرى. ثم هناك اختلاف في ترتيب بعض الأبيات بين الطبعتين، ثم إن الشاعر قد غير بعض الألفاظ في أكثر من بيت، وهذا معناه أن صياغة القصيدة لم تخلق منها البنية المستوية.

هذا من مجرد شكل القصيدة، ولا تتمثل البنية الحية في الشكل وحده؛ لأن الشكل مرتبط دائمًا بالمضمون؛ ولذلك ينبغي أن ننظر في صميم "البنية النفسية" للقصيدة. وبعد قراءات كثيرة للقصيدة نستطيع أن نطمئن إلى أن النسق النفسي لم يتوافر للقصيدة، فما تزال وحداتها النفسية مفرقة, لا تسلم كل واحدة منها إلى الأخرى. فهناك كثير من الانقطاع وكثير من البدايات يصادفنا, وقد نجد الشطر الواحد قائمًا بذاته، ويمكن أن يفصل عن البيت ليجري على الألسن مجرى المثل، كما هو مألوف في نسق الشعر القديم. من ذلك:

خدعت بالخلد تستدني أقاصيه ... "ما الخلد من أرب النوامة النهم"

ومع ذلك أنستطيع أن نقول: إن العقاد يشبه في هذه الناحية صاحبيه؟ الحقيقة أن العقاد كان أكثر منهما تعمقًا للشاعر وتصويرًا لجوانب إنسانية بارزة في شخصيته. وكان العقاد نفسه عميقًا في إحساسه بهذه الشخصية، كما كان عميقًا في معانيه التجريدية التي التمس لها الصور الحسية الحية ليزيدها وضوحًا, وتأثيرًا في النفس. ومن ذلك قوله:

قضيت دهرك تلهيهم وتضحكهم ... يا للعجائب من أضحوكة القِسَم

لا يوثق الهر رئبالًا ليضحكه ... فاعجب من الناس لا تعجب من البهم

<<  <   >  >>