للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فهو هنا يفترق عن صاحبيه في أنه لا يتناول معاني تقليدية، ولا يلجأ إلى صورة حسية مألوفة، ولكنه يشتق معانيه من شعوره، كما يلمس صورة جديدة من حيث عناصرها ومن حيث تركيبها. وهذا يدل على أن الشاعر يبذل جهدًا نفسيًّا في كتابته هذا الشعر، ولا يتناوله تناولا كيفما يتفق له، وحسبما يملي عليه الشعور العابر.

إذن فقد افترق العقاد عن صاحبيه في معانيه وفي طريقة عرضه لهذه المعاني. أما صوره فقد رأينا أنها صور جديدة، تحمل طابعًا إنسانيًّا من حيث إنها تجسم لنا حقائق إنسانية تجسيمًا واضحًا، يثير في نفوسنا تلك المعاني الإنسانية. وهذه الصور يستغلها الشاعر دائمًا في أن يدفع بالمعنى المجرد إلى نفس القارئ من خلال تلك الصور الحسية الموحية.

وقد سبق أن رأينا تنافرًا بين ما توحيه الصورة عند شوقي وما يريد أن ينقله إلينا من معنى، ولكن ذلك يختفي في قصيدة العقاد، فإيحاءات الصور هي نفس المعاني التي يريد الشاعر أن يوصلها إلى نفوسنا، فليس بين الصورة بإيحاءاتها وتلك المعاني أي لون من التنافر. وهذا معناه أنه في حين نجد أن "شوقيا" -وإلى حد ما "حافظا"- يلجأ إلى التصوير بما هو صنعة وزخرف للشكل، نجد العقاد يلجأ إلى التصوير ليعطي من خلاله معنى حسيا حيا. وبعبارة أخرى يصدق العقاد في تصويره حيث يكذب شوقي وأحيانًا حافظ, وصدق التعبير خط عريض من خطوط المذهب الجديد في الشعر.

على أن كثيرًا من رواسب المدرسة القديمة ما زال يتمثل في قصيدة العقاد, وأعتقد أن هذا الأمر طبيعي. فالقصيدة كتبت في وقت مبكر "١٩١٦"، في وقت كان الشعر فيه ما يزال تقليدًا للقديم، ثم إن التطور لا يحدث طفرة واحدة، فنحن لم نتخلص من مخلفات المدرسة القديمة إلا منذ سنوات.

والرواسب القديمة التي تتمثل في قصيدة العقاد تتضح في نسقها, فهي ما تزال متأثرة بالتصميم الخطابي أو طابع الخطابة في القصيدة القديمة. وأنت حين تطالعها تجد نفسك مضطرا لأن ترفع صوتك وإن كنت تقرؤها لنفسك. وليس ذلك في أبيات الحكمة التي يطلقها الشاعر من حين إلى آخر فحسب، ولكنه في طريقة النظم بكاملها، تلك الطريقة التي تجعل للألفاظ ولوقعها قيمة كبيرة تلهي القارئ -عند أول قراءتها- عما يمكن أن تحتوي عليه من معنى. وكثير من الأبيات تسمعه فيروقك سماعه لأول وهلة، فإذا بحثت عما فيه وجدت -بعد الجهد- معنى عاديا. والسبب في ذلك طريقة النظم التي حتمت في بعض الحالات صورًا من التقديم والتأخير، فكثر بذلك استخدام الضمائر العائدة. وفي هذه القصيدة يرتبط العقاد -إلى جانب ارتباطه

<<  <   >  >>