للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يتسور عليه الشيطان، ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي ذلك، حتى ينبهه جبريل، وذلك ممتنع في حقه أن يقوله من قبل نفسه عمدا وهو كفر، أو سهوًا وهو معصوم، وقد ثبت بالبراهين والإجماع عصمته من جريان ذلك على لسانه، أو قلبه، لا عمدا ولا سهوا، أو يكون للشيطان سبيل عليه في التبليغ، ولو جوزنا ذلك لذهبت الثقة بالأنبياء، ولوجد المارقون سبيلا للتشكيك في الأديان١.

ووجه آخر لفساد هذه القصة: وهو أن الله تعالى ذم الأصنام في هذه السورة، وأنكر على عابديها، وجعلها أسماء لا مسمى لها، وما التمسك بأذيالها إلا أوهام وظنون، فلو أن القصة صحيحة: لما كان هناك تناسب بين ما قبلها وما بعدها، ولكان النظْم مفككا، والكلام متخاذلا، وكيف يقع مدح بين ذمين؟ بل كيف يجوز هذا ممن كمل عقله على كل العقول، واتسع في باب البيان ومعرفة الفصيح علمه؟ وكيف يطمئن إلى مثل هذا التناقض السامعون، وهم أهل اللسان والفصاحة، ومنهم أعداؤه الذين يتلمسون له الزلات والعثرات؟ ولو أن ما روي كان واقعا لشغب المعادون، وارتد الضعفاء من المؤمنين، ولقامت قيامة مكة، كما حدث في الإسراء، ولكن شيئا من ذلك لم يكن.

ووجه ثالث: وهو أن بعض الروايات ذكرت أن فيها نزلت: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} ٢، وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله ذكر: أنهم كادوا يفتنونه ولولا أن ثبته لكاد يركن إليهم، ومفاده: أن الله عصمه من أن يفتري، وثبته، حتى لم يكد يركن إليهم، فقد انتفى قرب الركون فضلا عن الركون، لمكان العصمة والتثبت، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون، بل افترى بمدح آلهتهم وهذا ضد مفهوم الآيتين، وهو تضعيف للحديث لو صح، فكيف ولا صحة له؟ ولقد طالبته قريش وثقيف؛ إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل، ولا كان ليفعل، فكيف يدعي المتخرصون أنه مدح أصنامهم؟ ومما يدل على افتعال القصة: ما ذكره الأستاذ الإمام الشيخ: محمد عبده في رده.


.
١ الشفاء للقاضي عياض ص ١١٩ جزء ثان ط عثمانية.
٢ الإسراء الآيتان: ٧٣، ٧٤.

<<  <   >  >>