ويعجبني في هذا الباب أعني تشبيه المعقول بالمحسوس، قول ابن منير الطرابلسي:
زعم كمنبلج الصباح وراءه ... عزم كحد السيف صادق مقتلا
القسم الرابع تشبيه المحسوس بالمعقول: قد تقدم أن هذا القسم عند أهل المعاني والبيان غير جائز، وما ذاك إلا أن العلوم العقلية مستفادة من الحواس ومنتهية إليها، ولذلك قيل من فقد حسًا فقد علمًا. ووجه الصواب في تشبيه المحسوس بالمعقول، أن يقدر البليع المعقول محسوسًا ويجعل أصل المحسوس على طريق المبالغة فرعًا، فيصبح التشبيه حينئذ، كقول الشاعر:
وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع
فإنه لما شاع وصف السنة بالبياض والإشراف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أتيتكم بالحنيفية البيضاء، ليها كنهارها" واشتهرت البدعة، وكل ما ليس بحق بالظلمة والسواد، كقولهم: ليل الشرك، أقام هذا الشاعر السنن مقام الأجناس التي لها إشراق وبياض، والبدع مقام أجناس السواد والظلمة، فصار ذلك عنده كتشبيه محسوس بمحسوس، فجاز له التشبيه على هذا التقدير، كقول أبي طالب الرقي:
ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق
فإنه لما كانت الأوقات التي تحدث فيها المكاره توصف بالسواد، كقول من يغتاله مكروه: اسودت الدنيا في عيني، جعل هذا الشاعر يوم النوى أشهر بالسواد من الظلام، فشبهه وعرف به ثم عطف عليه بفؤاد من لم يشعق تظرفًا، لأن ظرف العشاق يدعي قسوة قلب من لم يعشق، والقلب القاسي يوصف بشدة السواد، فصار هذا القلب عنده أصلًا في السواد على هذا التقدير، فقس على ذلك.
ومثله قول القائل:
أسفر ضوء الصبح من وجهه ... فقام خال الخد فيه بلال١
كأنما الخال على خده ... ساعة هجر في ليالي الوصال
سواد ساعة وبياض زمان الوصل قد فهم على ما تقرر وتكرر.