للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي هاتين الآيتين الكريمتين أمر الله جل وعلا بالإشهاد في موضعين الأول {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} والموضع الثاني {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وهذا الأمر مصروف عن ظاهره والمراد به الندب لا الإيجاب كما قرر ذلك جمهور أهل العلم.

قال الإمام أبو بكر الجصّاص الحنفي: [ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئاً منه غير واجب. وقد نقلت الأمة خلف عن سلف عقود المداينات والأشربة والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجباً لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندباً، وذلك منقول من عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا. ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها لورد النقل به متواتراً مستفيضاً ولأنكرت على فاعله ترك الإشهاد، فلما لم ينقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من العامة ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين] أحكام القرآن للجصاص ٢/ ٢٠٦.

وقال الإمام ابن العربي المالكي: [اختلف النَّاس في لفظ (أَفْعِلْ) في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} على قولين: أحدهما: أنَّه فرض; قاله الضَّحَّاكُ. الثاني: أنَّه ندب; قالهُ الكافَّة; وهو الصّحيح; فقد باع النّبي - صلى الله عليه وسلم - وَكتب ونسخة كتابِه: (بِسم اللَّه الرحمن الرَّحيم هذا ما اشترى العدَّاء بن خالد بن هَوْذَة من محمدٍ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه عبدًا أو أمةً لا داء ولا غائلة ولا خِبثة, بيع المسلم للمسلم). وقد باع ولم يشهد, واشترى ورهن درعه عند يهوديّ ولم يشهد, ولو كان الإشهاد أمرًا واجباً لوجب مع الرهن لخوف المنازعة] أحكام القرآن لابن العربي ١/ ٢٥٩.

وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويستحب الإشهاد في البيع; لقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} وأقل أحوال الأمر الاستحباب. ولأنه أقطع للنزاع، وأبعد من التجاحد, فكان أولى, ويختص ذلك بما له خطر, فأما الأشياء القليلة الخطر, كحوائج البقَّالِ, والعطَّارِ, وشبههما, فلا يستحب ذلك فيها; لأن العقود فيها تكثر, فيشق الإشهاد عليها, وتقبح إقامة البينة عليها, والترافع إلى الحاكم من أجلها, بخلاف الكثير. وليس الإشهاد بواجب في أحد منهما, ولا شرطاً

<<  <   >  >>