للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

منع القراءة بالألحان الموسيقية، وتلاوة القرآن بطريقة أهل الفسق والمجون التي يستخدمها أهل الخلاعة من المغنين وأضرابهم، وهي ما يعرف في عصرنا الحاضر بـ"المقامات الموسيقية"، كما فرق رحمه الله بين الطبيعة الجبلية في القراءة وبين التكلف المذموم في التغني بالقرآن حتى يصل إلى حد التمطيط، وهم لا يحصل لهم ذلك إلا بالتعلم والتمرن والتصنع كما يفعل ذلك أهل الغناء بألحان وإيقاعات مخصوصة على أوزان مخصوصة قد اخترعوها وابتدعوها.

وقد أطال فيها النفس- رحمه الله- بعد أن ساق الأدلة المسكتة التي برهن بها على بطلان تلك الفعلة الشنيعة، ثم بين هنا أن التغني منه المحمود ومنه المذموم.

فقال في ذلك -رحمه الله-:

وفصل النزاع أن يقال التطريب والتغني على وجهين:

أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم بل إذا خلي وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز، وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين كما قال أبو موسى الأشعري للنبي- صلى الله عليه وسلم- "لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرًا" (١) والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستعملونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع، وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.

الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويتبين الصواب من غيره وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها ويسوغوها، ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرؤونه بشجى تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه


(١) -يُنظر: فتح الباري (١٤/ ٢٧٢)

<<  <   >  >>