للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: اعلموا رحمكم الله أن أصلي من مدينة ميورقة (١)، وكان والدي محسوبا من أهل حاضرة ميورقة، ولم يكن له ولد غيري، ولما بلغت ست سنين من عمري أسلمني إلى معلم من القسيسين، قرأت عليه الإنجيل حتى حفظت أكثره في مدة سنتين، ثم أخذت في تعلم لغة الإنجيل وعمل المنطق في ست سنوات، ثم ارتحلت من بلدي إلى مدينة لاردة من أرض القسطلان (٢)، وهي مدينة العلم عند النصارى في ذلك القطر، ويجتمع فيها طلبة العلم من النصارى، وينتهون إلى ألف وخمسمائة ولا يحكم فيهم إلا القسيس الذي يقرؤون عليه، فقرأت فيها علم الطبيعيات والنجامة مدة ست سنين، ثم تصدرت فيها أقرأ الإنجيل ولغته ملازما ذلك مدة أربع سنين، ثم ارتحلت إلى مدينة بلونية من أرض الأنبردية، وهي مدينة كبيرة جدا، وهي مدينة علم ويجتمع بها كل عام من الآفاق أزيد من ألفي رجل يطلبون العلوم، ولا يلبسون إلا الملف الذي هو صباغ الله، فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم كبير القدر اسمه: (نقلاو مرتيل)، وكانت منزلته فيهم في العلم والدين والزهد رفيعة جدا، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية، فكانت الأسئلة في دينهم تَرد عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم، ويصحب الأسئلة من الهدايا الضخمة ما هو الغاية في بابه، ويرغبون في التبرك به، وفي قبوله لهداياهم، ويتشرفون بذلك.

فقرأت على هذا القسيس علم أصول النصرانية وأحكامه، ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه حتى صيرني من أخص خواصه، وانتهيت في خدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إلىَّ مفاتيح مسكنه وخزائن مأكله ومشربه، وصير جميع ذلك على يدي، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه، والظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تهدى إليه، والله أعلم.

فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يوما من الدهر، فتخلف عن حضور مجلس إقرائه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله عز وجل - على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل -: (إنه يأتي من بعده نبي اسمه (البارقليط) (٣)، فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء، وقال كل واحد منهم بحسب علمه، وعظم مقالهم وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة، فأتيت مسكن القسيس، فقال: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم (البارقليط) وسردت له أجوبتهم، فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟ فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل. فقال لي: ما قصرت وقربت، وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب، ولكن الحق خلاف هذا كله؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل، فبادرت قدميه أقبلهما وقلت له: يا سيدي قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد، ولي في خدمتك عشر سنين، حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جميل إحسانكم أن تمنوا علي بمعرفة هذا الاسم.

فبكى الشيخ وقال لي: يا ولدي، والله أنت لتعز علي كثيرا من أجل خدمتك لي وانقطاعك إليَّ، في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف عليك أن يظهر ذلك عليك، فتقتلك عامة النصارى في الحين. فقلت له: يا سيدي، والله العظيم، وحق الإنجيل ومن جاء به، لا أتكلم بشيء مما تسره إلي إلا عن أمرك.

فقال لي: إذن فاعلم يا ولدي أن البارقليط هو اسم من أسماء نبي المسلمين محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام، وأخبر أنه نزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل.

فقلت: وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟ فقال لي: يا ولدي لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول، لكانوا على دين الله؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله، ولكن بدلوا وكفروا.


(١) جزيرة في البحر الأبيض جنوب أسبانيا وتابعة لها (انظر تحفة الأريب، ص:٦١)
(٢) وهي مدينة في الأندلس (انظر تحفة الأريب، ص:٦٣).
(٣) انظر: إنجيل يوحنا (١٤:١٥ - ١٧)، والكلمة فيه (باركليتكس) وترجتمها في النسخة العربية (المعزي)، والصحيح أن معناها (كثير الحمد) انظر تحفة الأريب (ص:٢٦٧،٦٦).

<<  <   >  >>