فقلت: يا سيدي وكيف الخلاص من هذا الأمر؟ فقال: يا ولدي بالدخول في دين الإسلام. فقلت: وهل ينجو الداخل فيه؟ قال: نعم ينجو في الدنيا والآخرة. فقلت: يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم؛ فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه؟ فقال: يا ولدي إن الله لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به إلا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك، لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى، من رفعة الجاه والعز، والترف، وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام، لقتلتني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم وخلصت إلى المسلمين، فأقول لهم: إني جئتكم مسلما. فيقولون لي: قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق، فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت فيه نفسك من عذاب الله. فأبقى فيهم شيخا كبيرا فقيرا ابن تسعين، لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي (١). فقلت: يا سيدي أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل دينهم؟ فقال: إن كنت عاقلا، طالبا للنجاة، فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن، فاكتمه بغاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك، ولا ينفعك أن تنقله عني، فإني أجحده وقولي مصدق عليك، وقولك غير مصدق علي، وأنا برئ من ذلك إن فهت بشيء، فعاهدته بما يرضيه.
ثم أخذت في أسباب الرحلة وودعته، فدعا لي عند الوداع بخير، فانصرفت إلى بلدي ميورقة، ثم سافرت إلى جزيرة صقلية، وأقمت فيه خمسة أشهر وأنا انتظر مركبا يتوجه لأرض المسلمين، فحضر مركب يسافر إلى مدينة تونس، فسافرت فيه من صقلية وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق، فوردنا مرسى تونس قبل الزوال، فلما نزلت بديوان تونس، وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى أتوا بمركب وحملوني معهم إلى ديارهم، وصحبتهم أيضاً بعض التجار الساكنين أيضاً بتونس، فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرغد عيش أربعة أشهر، وبعد ذلك سألتهم هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى، وكان السلطان آنذاك مولانا أبا العباس أحمد - رحمه الله- فذكر لي النصارى أن بدار السلطان المذكور رجلاً فاضلاً من أكبر خدامه اسمه يوسف الطبيب وكان طبيبه، ومن خواصه، ففرحت بذلك فرحاً شديداً، وسألت عن مسكن هذا الرجل الطبيب، فدللت عليه واجتمعت به، وذكرت له شرح حالي، وسبب قدومي للدخول في الإسلام، فسر الرجل بذلك سروراً عظيماً بأن يكون تمام هذا الخير على يديه، ثم ركب فرسه وحملني معه لدار السلطان، ودخل عليه فأخبره بحديثي، فاستأذنه لي فأذن لي، فمثلت بين يديه، فأول ما سألني السلطان عن عمري، فقلت له: خمسة وثلاثون عاماً، ثم سألني عما قرأت من العلوم فأخبرته، فقال لي: قدمت قدوم خير، فأسلم على بركة الله. فقلت للترجمان -وهو الطبيب المذكور-: قل لمولانا السلطان إنه لا يخرج أحد من دين إلا ويكثر أهله القول فيه والطعن فيه، فأرغب من إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم، وتسألوهم عني وتسمعوا ما يقولون في جنابي، وحينئذ أسلم إن شاء الله تعالى، فقال لي بواسطة الترجمان: أنت طلبت ما طلب "عبد الله بن سلام" من النبي (صلى الله عليه وسلم).
(١) وهذا سوء ظن بالمسلمين ولكنه كما قال هو: (حب الدنيا رأس كل خطيئة)، وحدثنا أحد المتخصصين في كتب النصارى من أساتذة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة أن هذا الرجل أسلم أيضا وقتلته النصارى.