للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أ -أما المنع؛ فنمنع أن هذه الآية جاءت بعد سؤال المشركين؛ قال ابن حجر -رحمه الله-: (ولم أر في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس) (١) ، وأنس لم يعاصر القصة بشهادة رشيد رضا. ولو سلمنا أنه كان بعد سؤال المشركين، فنمنع أنه لم يأتهم العذاب، فقد أخذهم الله بالسنين حتى أكلوا الميتات، فقد ذكر ابن مسعود: أن قريشا أَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ، وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنْ الْجُوعِ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ. فقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (إِلَى قَوْلِهِ (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَتْ الدُّخَانُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَآيَةُ الرُّومِ) (٢) .

وعذبهم أيضا في غزوة بدر بقتل سبعين وأسر سبعين، وهي البطشة كما في حديث ابن مسعود (.

وفي غزوة الأحزاب بالريح الباردة التي أكفأت قدورهم، وقلعت خيامهم، وردتهم مغلوبين، مدحورين مهزومين، كما في سورة الأحزاب.

وفي فتح مكة حين هزموا وجردوا من ملكهم لمكة، وكانت خاتمة لطغيانهم، ونهاية لعزهم وشرفهم، فكل هذا من العذاب.

ب -أما التسليم؛ فيتضح من النقاط التالية:

١-لو سلمنا أنهم لم يعذبوا، فإنما كان ذلك لعلة، وهي وجود النبي (صلى الله عليه وسلم) بين أظهرهم، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:٣٣] .

٢-وأجاب الخطابي على هذا بجواب آخر؛ فقال ما ملخصه: إن الذين سألوا هذه الآية ليسوا كل أهل مكة، بل هم أعداد قليلة (٣) ، فهذه الآية لم يجمع لها الناس في صعيد واحد، كما حصل مع موسى - عليه السلام -، بل هي حادثة عابرة.

٣-ومن أسباب تخلف العذاب أن النبي (صلى الله عليه وسلم) هو آخر الأنبياء، وأمته هي آخر الأمم، كما قال (: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة» (٤) . فلو أهلكها الله تعالى لما بقي أحد يعبد الله تعالى، وتذهب كثير من السنن الكونية مثل سنة الاختلاف، وسنة المدافعة، وغيرها.

٤-ومن الأسباب أيضا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دعا ربه أن لا يهلك أمته بسنة عامة؛ كما جاء عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قال رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً، فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا» (٥) .


(١) فتح الباري (٧/٢٢١) .
(٢) متفق عليه (البخاري: كتاب الجمعة، باب دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) ، رقم:٩٦٢، ومسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب الدخان، رقم:٢٧٩٨) .
(٣) انظر: فتح الباري (٧/٢٢٥) بتصرف وترتيب.
(٤) متفق عليه عن أبي هريرة (البخاري: كتاب الجمعة باب فرض الجمعة، رقم:٨٣٦، ومسلم: كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، رقم:٨٥٥) واللفظ لمسلم.
(٥) أخرجه مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، رقم:٢٨٨٩) .

<<  <   >  >>