للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن ذلك أيضا قوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:٦١] . وجاء عن سَعْيدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، أنه أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِوِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: عَائِشَةُ فَأْتِهَا فَاسْأَلْهَا، ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِرَدِّهَا عَلَيْكَ. فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهَا فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ (كَانَ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلَ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ بَدَا لِي فَقُلْتُ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ... الحديث) (١) .

وقد أُلفتْ في أخلاق النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وشمائله العطرة، وصفاته الزكية، وعاداته الحميدة مؤلفات كثيرة، من أشهرها كتاب شمائل النبي (صلى الله عليه وسلم) للترمذي، ولأبي بكر المقري، ولأبي العباس المستغفري، وكتاب الأنوار في شمائل المختار للبغوي (٢) ، وغيرها كثير.

وهذه الأخلاق العظيمة شهد له فيها أعداؤه من كفار قريش وغيرهم، وكان متحليا بها قبل الإسلام وبعده؛ (فإذا أنت صعدت بنظرك إلى سيرته العامة، لقيت من جوانبها مجموعة رائعة من الأخلاق العظيمة، حسبك الآن منها أمثلة يسيرة، إذا ما تأملتها صورت لك إنساناً من الطهر ملء ثيابه، والجد حشو إهابه، يأبى لسانه أن يخوض فيما لا يعلمه، وتأبى عيناه أن تخفيا خلاف ما يعلنه، ويأبى سمعه أن يصغي إلى غلو المادحين له: تواضعٌ هو حلية العظماء، وصراحة نادرة في الزعماء، وتثبت قلما تجده عند العلماء. فأنى من مثله الختل (٣) أو التزوير، أو الغرور أو التغرير؟ حاشا لله!

أما هذه الأمثلة اليسيرة التي تتصل بالجانب الخلقي منه (، ورأينا الاكتفاء بها في الدلالة على ذدق نبوته، فنجملها فيما يلي:

١- يتبرأ من علم الغيب:

جلست جويريات يضربن بالدف في صبيحة عرس الربيع بنت معوذ الأنصارية، وجعلن يذكرن آباءَهُنَّ من شهداء بدر حتى قالت جارية منهن: وفينا نبي يعلم ما في غدٍ. فقال: «لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين» . رواه البخاري (٤) . ومصداقه في كتاب الله تعالى: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} [سورة الأنعام الآية:٦٠] ، {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير} [سورة الأعراف الآية:١٨٨] .

٢- لا يُظهر خلاف ما يبطن:

كان عبد الله بن أبي السرح أحد النفر الذين استثناهم النبي من الأمان يوم الفتح؛ لفرط إيذائهم للمسلمين وصدهم عن الإسلام، فلما جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يبايعه إلا بعد أن شفع له عثمان رضي الله عنه ثلاثاً. ثم أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله؟» فقالوا: ما ندري ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك! فقال (: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» . رواه أبو داود والنسائي (٥) .

٣- خوفه من التقول على الله:


(١) أخرجه مسلم مطولا (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أومرض، رقم:٧٤٦) .
(٢) انظر الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة للكتاني (ص:٨٨) .
(٣) الختل: الخداع عن غفلة. الوسيط (١/٢٢٥) (خ ت ل) .
(٤) البخاري (كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا، رقم:٣٧٧٩) .
(٥) أخرجه أبو داود (كتاب الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، رقم:٢٦٨٣) ، والنسائي (كتاب تحريم الدم، باب الحكم في المرتد، رقم:٤٠٦٧) وإسناده حسن.

<<  <   >  >>