للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال ابن القيم -رحمه الله-: (وأما اليهود فقد حكى الله لك عن جهل أسلافهم وغباوتهم وضلالهم، ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل، التي بعضها فوق بعض، ويكفي في ذلك عبادتهم العجل الذي صنعته أيديهم من ذهب، ومن عبادتهم أن جعلوه على صورة أبلد الحيوان وأقله فطانة، الذي يضرب المثل به في قلة الفهم، فانظر إلى هذه الجهالة والغباوة المتجاوزة للحد، كيف عبدوا مع الله إلها آخر، وقد شاهدوا من أدلة التوحيد وعظمة الرب وجلاله، ما لم يشاهده سواهم، وإذ قد عزموا على اتخاذ إله دون الله، فاتخذوه ونبيهم حي بين أظهرهم لم ينتظروا موته، وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر العلوية كالشمس والقمر والنجوم، بل من الجواهر الأرضية، وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر التي خلقت فوق الأرض عالية عليها، كالجبال ونحوها بل من جواهر لا تكون إلا تحت الأرض والصخور والأحجار، عالة عليها، وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من جوهر يستغني عن الصنعة وإدخال النار وتقليبه وجوها مختلفة وضربه بالحديد وسبكه بل من جوهر يحتاج إلى نيل الأيدي له بضروب مختلفة وإدخاله النار وإحراقه واستخراج خبثه، وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال ملك كريم ولا نبي مرسل ولا على تمثال جوهر علوي لا تناله الأيدي بل على تمثال حيوان أرضي، وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال أشرف الحيوانات وأقواها وأشدها امتناعا من الضيم كالأسد والفيل ونحوهما بل صاغوه على تمثال أبلد الحيوان وأقبله للضيم والذل بحيث يحرث عليه ويسقى عليه بالسواقي والدواليب ولا له قوة يمتنع بها من كبير ولا صغير فأي معرفة لهؤلاء بمعبودهم ونبيهم وحقائق الموجودات وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلها، فيعبد إلها مجعولا بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات، أن لا يعرف حقيقة الإله ولا أسماءه وصفاته ونعوته ودينه، ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقره، ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، ولا قالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا.

ولا قتلوا نفسا وطرحوا المقتول على أبواب البُرَآءِ من قتله ونبيهم حي بين أظهرهم، وخبر السماء والوحي يأتيه صباحا ومساء، فكأنهم جوزوا أن يخفى هذا على الله كما يخفى على الناس، ولو عرفوا معبودهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له: (يا أبانا انتبه من رقدتك كم تنام) ولو عرفوه لما سارعوا إلى محاربة أنبيائه وقتلهم وحبسهم ونفيهم، ولما تحيلوا على تحليل محارمه، وإسقاط فرائضه بأنواع الحيل ... ) (١) .

إلى آخر تلك السلسلة من الشتائم التي لم يقلها حتى عباد الأصنام لآلهتهم.

وأما النصارى الذين هم أحسن حالا من اليهود وأقرب لنا منهم، فقد اجتمع أكثر من ألفي عالم من علمائهم في مؤتمر الأمانة -ويسميه علماء الإسلام الخيانة (٢) - ليحددوا عقيدتهم في الله، فنسبوا لله -كما يقول ابن القيم- أفعال الحمقى والمجانين (٣) ، فلو أن ملكا غضب على شعبه بسبب ذنبٍ واحدٍ، ارتكبه رجل واحد، ثم حاول شعبه إرضاءه بكل سبيل فلم يفلح، ثم قال لهم بعد أزمان طويلة: إذا أردتم إرضائي وذهاب غضبي، فإني أرسل لكم ابني فاقتلوه، فعندها فقط أرضى عليكم. من يفعل هذا الفعل؟!.

فالنصارى يقولون: إن الله غضب على البشرية بسبب خطيئة آدم، فلم يرض عن البشرية مع من فيها من الأنبياء والمرسلين إلا بعد أن أرسل ابنه للبشرية، فلم يزل غضبه مستمرا حتى قاموا بضربه وصفعه والبصق في وجهه وصلبه، ووضع الشوك على رأسه، وتسمير يديه باللوح وبقاؤه مصلوبا حتى مات ابنه؛ عندها فقط رضي عن كل البشر، وسامحهم على تلك الخطيئة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

* وَصَفَ النبيُّ (الملائكةَ وصفاً عجيباً؛ فهم جند الله والقائمون بأمره، العابدون لربهم في كل وقت لا يفترون، ولا ينامون، ولا يأكلون، ولا يشربون بل يسبحون الله الليل والنهار لا يسأمون، أين هذا من وصف الكفار لهم بالإناث وغير ذلك.


(١) هداية الحيارى من اليهود والنصارى، لابن القيم (ص:٣٥٧-٣٥٩) .
(٢) انظر: تفسير ابن كثير (١/٣٦٦) .
(٣) انظر: هداية الحيارى من اليهود والنصارى، لابن القيم (ص:٣٢٣) .

<<  <   >  >>