للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الطفري سر آخر يُلتمس خارجاً عن حدود النفس وعن دائرة المعلومات القديمة، وإن ملاحدة الجاهلية وهم أجلاف الأعراب في البادية كانوا في الجملة أصدق تعليلاً لهذه الظاهرة , وأقرب فهماً لهذا السر من ملاحدة هذا العصر، إذ لم يقولوا كما قال هؤلاء إنه استقى هذه الأخبار من وحي نفسه، بل قالوا: إنه لابد أن تكون قد أمليت عليه منذ يومئذ علوم جديدة؛ فدرس منها ما لم يكن قد درس، وتعلم ما لم يكن يعلم {وكذلك نصرف الآيات وليقولوا دَرَستَ} [سورة الأنعام الآية: ١٠٥] ، {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} [سورة الفرقان الآية: ٥] .

ولقد صدقوا؛ فإنه درسها، ولكن على أستاذه الروح الأمين، واكتتبها، ولكن من صحفٍ مكرمةٍ مرفوعةٍ مطهره، بأيدي سفرةٍ كرامٍ برره {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون} [يونس:١٦] .

ذلك شأن ما في القرآن من الأنباء التاريخية، لا جدال في أن سبيلها النقل لا العقل، وأنها تجيء من خارج النفس لا من داخلها.

أما سائر العلوم القرآنية فقد يقال: إنها من نوع ما يدرك بالعقل، فيمكن أن ينالها الذكي بالفراسة والروية. وهذا كلام قد يلوح حقاً في بادئ الرأي، ولكنه لا يلبث أن ينهار أمام الاختبار، ذلك أن العقول البشرية لها في إدراك الأشياء طريق معين تسلكه، وحدٌ محدود تقف عنده ولا تتجاوزه، فكل شيء لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن مباشرة، ولم يكن مركوزاً في غريزة النفس، إنما يكون إدراك العقول إياه عن طريق مقدمات معلومة توصل إلى ذلك المجهول، إما بسرعة كما في الحَدْسِ (١) ,وإما ببطء كما في الاستدلال والاستنباط والمقايسة (٢) ، وكل ما لم تمهد له هذه الوسائل والمقدمات , لا يمكن أن تناله يد العقل بحال، وإنما سبيله الإلهام، أو النقل عما جاءه ذلك الإلهام.

فهل ما في القرآن من المعاني غير التاريخية كانت حاضرة الوسائل والمقدمات في نظر العقل؟

ذلك ما سيأتي نبأه بعد حين، ولكننا نعجل لك الآن بمثالين من تلك المعاني نكتفي بذكرهما هنا عند إعادتهما بعد:

أحدهما: قسم العقائد الدينية.

والثاني: قسم النبوءات الغيبية.

ب - الحقائق الدينية الغيبية لا سبيل للعقل إليها:

فأما أمر الدين فإن غاية ما يجتنيه العقل من ثمرات بحثه المستقل فيه، بعد معاونة الفطرة السليمة له، هو أن يعلم أن فوق هذا العالم إلهاً قاهراً دبره , وأنه لم يخلقه باطلاً، بل وضعه على مقتضى الحكمة والعدالة؛ فلابد أن يعيده كرةً أخرى لينال كل عامل جزاء عمله , إن خيراً وإن شراً.

هذا هو كل ما يناله العقل الكامل من أمر الدين، ولكن القرآن لا يقف في جانبه عند هذه المرحلة؛ بل نراه يشرح لنا حدود الإيمان مفصلة، ويصف لنا بدء الخلق ونهايته، ويصف الجنة وأنواع نعيمها، والنار وألوان عذابها، كأنهما رأي عين، حتى إنه ليحصي عدة الأبواب،


(١) الحدس: الظن والتخمين.
(٢) المقايسة: القياس وهو الاستدلال على الشيء بمثيله أو شبيهه.

<<  <   >  >>