وأشباه ذلك لم يصل قط إلى الأميين؛ فإن هذه النتف اليسيرة قلما تعزب عن أحد من أهل البدو أو الحضر؛ لأنها مما توارثته الأجيال وسارت به الأمثال، وإنما الشأن في تلك التفاصيل الدقيقة والكنوز المدفونة في بطون الكتب , فذلك هو العلم النفيس الذي لم تنله يد الأميين , ولم يكن يعرفه إلا القليل من الدارسين، وإنك لتجد الصحيح المفيد من هذه الأخبار محرراً في القرآن، حتى الأرقام طبق الأرقام: فترى مثلاً في قصة نوح عليه السلام في القرآن أنه لبث في قومهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفي سفر التكوين من التوراة أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة، وترى في قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية، وفي القرآن أنهم لبثوا في كهفهم {ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعاً}[سورة الكهف الآية:٢٥] وهذه السنون التسع هي فرق ما بين عدد السنين الشمسية والقمرية؛ قاله الزجاج يعني بتكميل الكسر.
فانظر إلى هذا الحساب الدقيق في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب.
نعم إنها لعجيبة حقاً: رجل أمي بين أظهر قوم أميين، يحضر مشاهدهم - في غير الباطل والفجور - ويعيش معيشتهم مشغولاً برزق نفسه وزوجه وأولاده، راعياً بالأجر، لا صلة له بالعلم والعلماء؛ يقضي في هذا المستوى أكثر من أربعين سنة من عمره، ثم يطلع علينا فيما بين عشية وضحاها , فيكلمنا بما لا عهد له به في سالف حياته , وبما لم يتحدث إلى أحد بحرف واحد منه قبل ذلك، ويبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى ما أخفاه أهل العلم في دفاترهم وقماطرهم؟ أفي مثل هذا يقول الجاهلون إنه استوحى عقله واستلهم ضميره؟ أي منطق يسوغ أن يكون هذا الطور الجديد العملي نتيجة طبيعة لتلك الحياة الماضية الأمية؟ إنه لا مناص في قضية العقل من أن يكون لهذا الانتقال