للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سبحانه: (وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا) (البقرة: ١٤٣).

و (وَسَطًا) يعني: أهل دين وسط، بين الغلو والتقصير، لأنهما مذمومان في الدين. (١)

قال ابن كثير (ت: ٧٧٤ هـ) - رحمه الله-:

والوسط ههنا الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا أي: خيارها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه، أي أشرفهم نسبًا، ومنه: الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي صلاة العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها … (٢)

ذلك لأن الوسطيةُ من أبرز خصائص منهج أهلِ السُّنَّة والجماعة ولا سيما في قضايا العقيدة وما يتعلق بها من أحكام، أما أهلُ الفِرَق الخارجة عن منهج وعقيد أهل السُّنَّة فإنك تراهم قد أَصَّلوا لأنفسهم أصولًا وقعَّدوا لها قواعد وحاكموا إليها نصوصَ الشرع ونزَّلوها عليها، فما وافق منها ما أصَّلوه وقعَّدوه قَبِلوه، وما خالف منها ردُّوه ورفضوه، ولذا فإن المتبصر والمتأمل في أصول وقواعد ومناهج تلك الفرق يراها تدور بين الإفراط والتفريط، وبين الغُلُوِّ والجفاء، أما أهلُ السُّنَّة فترى وسطيتهم بين تلك الفرق وتراهم أكثرها تعظيمًا وإجلالًا للحق ولزومًا له وعملًا به وتراهم أكثر وأسرع انقيادًا وتسليمًا للدليل الشرعي الوارد في الكتاب والسُّنَّة، فلا يردُّون الأدلة الثابتة في الوحيين ولا يعارضونها بشيءٍ من الأهواء، ولا يتجاوزونها إلي تحكيم عقولهم ولا آرائهم ولا يستعملون الأقيسةٍ المنطقية الفلسفية ولا يقدمونها على الأدلة الشرعية، وهم في ذلك مستجيبين لأمره ربهم الذي خاطبه فيه سبحانه بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (الحجرات: ١).

فأهل السُّنَّة يعتمدون على النصوص الشرعية، ويقدمونها على العقول البشرية، ويجعلون العقل البشري وسيلة لفهم النصوص الشرعية، وشرطًا في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلًا بذلك، فهم قد توسطوا في أمر العقل أيضًا، فلم يقدموه على النصوص كما فعل أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، ولم يهملوه ويذموه كما يفعل كثير من المتصوفة، الذين يعيبون العقل، ويقرون من الأمور ما يكذب به صريح العقل، ويصدقون بأمور يعلم العقل الصريح بطلانها ممن لم يعلم صدقه. (٣)

وفي نحو ذلك يقول الشوكاني (ت: ١٢٥٥ هـ) - رحمه الله-:

اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقدم عليه، إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث


(١) - تفسير البغوي: (١/ ١٢٢)، يرويه البغوي عن الكلبي.
(٢) تفسير ابن كثير: (١/ ١٨١).
(٣) العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز الحنفي: (٧٨٦ - ٨٠٣)، مجموع فتاوى ابن تيمية: (٣/ ١٦٨، ٣٣٨، ٣٧٣ و ٥/ ٥٠٤٥)، درء تعارض العقل والنقل: (١/ ١٢، ٢٠، ١٠٥، ١٣٣)، و منهاج السنة: (٢/ ١٠٣ - ٦٥٠)، و العقيدة الواسطية مع شرحها لابن عثيمين: (٢/ ٦٣)، و التنبيهات السنية: (١٩١ - ٢٠٦).

<<  <   >  >>