للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن: "من قال لِأَخِيهِ يا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بها أَحَدُهُمَا". (١)

ثم قال-رحمه الله-:

ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير. (٢)

وفي أخذ الحيطة في الحكم بالتكفير يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: ٧٢٨ هـ) ـ رحمه الله ـ:

والكفر هو من الأحكام الشرعية، وليس كلُّ من خالف شيئًا عُلِمَ بنظر العقل يكون كافرًا، ولو قُدِّرَ أنه جحد بعضَ صرائحِ العقول لم يُحكَم بكفره حتى يكون قولُه كفرًا في الشريعة. (٣)

ويقول ـ رحمه الله ـ في محض كلامه عن الخوارج:

وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالُهم بالنصِّ والإجماع لم يكفروا مع أمرِ الله ورسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحقُّ في مسائلَ غَلِطَ فيها مَنْ هو أعلم منهم؟ فلا يحلُّ لأحدٍ من هذه الطوائفِ أن تكفِّر الأخرى، ولا تستحلَّ دَمَها ومالَها وإن كانت فيها بدعةٌ محققَّةٌ، فكيف إذا كانت المكفِّرة لها مبتدعةً أيضًا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ. والغالب أنهم جميعًا جهَّالٌ بحقائقِ ما يختلفون فيه. (٤)

وهذا الكلام النفيس يدل وسطية أهل السُّنَّة ورحمتهم بالخلق وأخذهم الحيطة والحذر في قضايا التكفير.

وفي هذه الصدد يقول الإمامُ أبو عثمان الصابونيُّ (ت: ٤٤٩ هـ) ـ رحمه الله ـ: ويَعتقدُ أهلُ السُّنَّة أنَّ المؤمن وإن أذنب ذنوبًا كثيرةً صغائرَ كانت أو كبائرَ فإنه لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غيرَ تائبٍ منها ومات على التوحيد والإخلاص فإنَّ أمره إلى الله عزَّ وجلَّ، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنَّةَ يوم القيامة سالِمًا غانمًا، غيرَ مبتلًى بالنار ولا معاقَبٍ على ما ارتكبه من الذنوب واكتسبه واستصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذَّبه مدَّةً بعذاب النار، وإذا عذَّبه لم يخلِّده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار. (٥)

وكلام أبي عثمان الصابوني رحمه الله هو لب معتقد أهل السنة في مرتكب الكبير لأنه مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته ولا يخرج من الملة خلافًا للخوارج، لأنه عندهم خارج من الملة عياذًا بالله من الغلو، وأهل السُّنَّة وسط بين الفرق في هذا الباب خاصة.

وشيخ الإسلام ابن تيمية يقرر هذه الوسطية فيقول- رحمه الله-:

وكل أهل السنة متفقون على أنه - يعني مرتكب الكبيرة - قد سلب كمال الإيمان الواجب، فزال بعض إيمانه الواجب لكنه من أهل الوعيد.

وإنما ينازعون في ذلك من يقول: الإيمان لا يتبعض، من الجهمية، والمرجئة، فيقولون: إنه كامل الإيمان. (٦)


(١) - متفق عليه، البخاري (٥٧٥٣)، ومسلم (٦٠)، ولفظه في البخاري: (أَيُّمَا رَجُلٍ قال لِأَخِيهِ يا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بها أَحَدُهُمَا).
(٢) - السيل الجرار: (٤/ ٥٧٨).
(٣) - مجموع الفتاوى، لابن تيمية: (١٢/ ٥٢٥).
(٤) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: (٣/ ٢٨٢ ـ ٢٨٣).
(٥) -عقيدة السلف أصحاب الحديث، لأبي عثمان الصابوني: (٧١ ـ ٧٢).
(٦) -الإيمان: (ص ٢٤٤)، الفتاوى: (٧/ ٢٥٨).

<<  <   >  >>