فتنتزع هذه الجملة:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} وتصر على أن الكتاب هو القرآن، هذا خلل في الفهم لا يساعد عليه سياق الآية ولا الجملة التي قبلها ولا الجملة التي بعدها، ومع افتراض أن الكتاب هنا مقصود به القرآن الكريم، وهذا افتراض جدلي من باب منازلة الخصوم، نعم:{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، ذكر الله القواعد العامة للأمور كلها، لكن التفصيلات تركها للسنة المطهرة، ومن بين ما لم يفرط الله -تبارك وتعالى- فيه أنه أوجب في القرآن الكريم طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}(النساء: ٥٩) أدرِجها تحت قوله -تبارك وتعالى-: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} من بين ما لم يفرط الله فيه في القرآن الكريم: أنه أوجب طاعة رسوله، فلماذا تستبعد إذن هذه الآية، ولا تريد أن تفهم الأمر على هذا النحو؟
الأوفق لسياق الآية أن يقال: إن الكتاب هو اللوح المحفوظ، ومعظم المفسرين درجوا على هذا، ولا نريد أن نطيل بذكر أقوالهم، وهناك من قال: نعم، إنه القرآن لا ننازع في هذا، وهناك من قال: إنه القرآن، لكن القول الأشهر عندهم أنه اللوح المحفوظ، وقلنا: إن سياق الآية يرشح ويرجح هذا الفهم، وكما قلنا: كلمة الكتاب وردت بمعنى غير القرآن الكريم في آيات كثيرة، ذكرنا بعضها، ومن ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا}(آل عمران: ١٤٥) لا يمكن أن يُفهم هذا الكتاب إلا على أنه القدر مثلًا، أو الحكم الثابت الذي لا يقبل النقض ولا الإبرام، والوقت المحدد والأجل المحتوم الذي كتبه الله لكل نفس. لا أحد يموت إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التي كتبها الله -تبارك وتعالى- له:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ}(فاطر: ١١){الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُون}(الأنعام: ٢) وحين يقول الله -تبارك وتعالى- مثلًا:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}(النساء: ١٠٣) أي: مفروضًا محددًا.