عند علماء الأصول، الذين يعتنون بمدى قوة الأدلة ... عندهم التقسيمات المعروفة: هذا دليل قطعي الثبوت، وهذا دليل ظني الثبوت، وهذا دليل قطعي الدلالة، وهذا دليل ظني الدلالة ... تقسيمات اقتضاها تخصصهم، لا نعتب عليهم فيها؛ هم أهل علم وفضل؛ لكن المحدثين معنيون بمسألة أخرى: وهي أنه الحديث: ما جاءنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، ومتى ثبت صدق المخبرين ووضعوا لذلك شروط الصحة التي نعلمها جميعًا؛ فهم يقطعون بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قالها، ومع افتراض أنه يفيد الظن ونسلم تسليمًا جدليًّا بهذا -حتى لا نطيل في النقاش- فإنه يجب على الأمة -وجوبًا- العمل بما غلب على ظنها -وهذا أمر مجمع عليه عند العلماء.
إذن، استدلالهم بـ:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ليست في بابها أبدًا؛ لأن الظن المذموم هو الذي يوضع في مقابلة العلم اليقيني، لا قسيمًا له، يعني: إما تتبع علم يقيني إما أنت تظن أي تَهِم، وليست لديك أدلة، أي: العلم أو الظن الذي يفتقد الأدلة؛ أما الظن بمعناه الاصطلاحي عند أهله المتخصصون: فهو العمل بالقول الراجح أو ترجيح أحد الاحتمالين، وهذا أيضًا يجب العمل به والقرآن قطعي الثبوت؛ لكن كثير من أدلته ظني الدلالة، يعني: ليس قطعي الدلالة، {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}(النساء: ٤٣) مثلًا؛ لماذا اختلف العلماء في المراد بالملامسة؟ لأن الدلالة هنا ظنية وليست قطعية، ولو كانت قطعية لما اختلف المسلمون حول مفهوم الملامسة المقصود في الآية.
إذن، استدلالهم بهذا يعني لا ينتهض أبدًا حجة لهم في هذا الأمر.
أيضًا، من الأدلة قصة أبي بكر في ميراث الجدة -وكنا قد أشرنا إليها- حين طلب شاهدًا مع المغيرة بن شعبة، وقصة عمر -رضي الله عنه- حين طلب شاهدًا مع أبي موسى