بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن
(شبهة حول تدوين السنة (٢))
الأحاديث الدالة على الإذن بتدوين الحديث والحث عليه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأصحابه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
فبعون من الله -تبارك وتعالى- وتوفيقه كنا قد بدأنا الكلام عن شبهة تدوين السنة، وخلاصتها أن الأعداء يقولون: إن تدوين السنة قد تأخر إلى مطلع القرن الثاني الهجري أثناء خلافة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه ورحمه الله تعالى- لأنه هو الذي أمر بتدوين السنة، وقد ذكرنا الرواية الدالة على ذلك، وهي موجودة في (صحيح البخاري) فأين كانت السنة المطهرة طوال القرن الأول الهجري كله؟.
ويثيرون وفقًا لهذا بعض الشكوك في السنة تعرضت للزيادة والنقصان والتحريف أو التغيير والتبديل وما شاكل ذلك، وهذا اقتضانا أن نذكر أدلة؛ يعني قلنا: إن أول الأمر من النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن كتابة السنة، وهذا حديث صحيح موجود في (صحيح الإمام مسلم) من رواية أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- وذكرناه أيضًا في الدرس الماضي، واقتصرنا على حديث أبي سعيد؛ لأنه أصح الأحاديث الواردة في النهي عن الكتابة.
هناك أدلة أخرى قد تكلم العلماء حولها -لا داعي للدخول في تفصيلاتها- وإنما يكفينا حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- فهو واضح في الدلالة على النهي عن كتابة السنة في أول الأمر، ثم بعد ذلك أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكتابة، وهذا الإذن له أدلة كثيرة، وهناك قرائن تبين أن هذه الأدلة كانت في آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
من هذه الأدلة كما ذكرنا حديث: ((اكتبوا لأبي شاة)) فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يأذن لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- في الكتابة، وكان ذلك بعد إسلام عبد الله الذي أسلم في السنة الثامنة للهجرة، وحديث أبي شاة كان في فتح مكة أي في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة.
والخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- روى في كتاب (تقييد العلم) قال بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رجل يشهد حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يحفظه، فيسألني، فأحدثه، فشكا قلة حفظه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "استعن على حفظك بيمينك" أي: استعن بالكتابة لتساعدك على الحفظ؛ لأن الكتاب من أقوى الوسائل في حفظ العلم.
والمهم أن هذه أدلة وغيرها أيضًا موجود، ولا نطيل في ذكر الأدلة إنما نبين أن هناك أدلة نهت عن الكتابة كما في حديث أبي سعيد، وأدلة حثت أو سمحت بالكتابة، العلماء -رحمهم الله تعالى- تعددت أقوالهم في الجمع بين هذه الأحاديث، بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن.
هناك من قال: إن العلاقة هي العموم والخصوص، بمعنى أن قوي الحفظ لا يسمح له بالكتابة، فحديث النهي يحمل عليه، أحاديث النهي كلها تحمل على من يعني له حافظة قوية يستطيع أن يحفظ، فلا يهدرها، ولا يضيعها بالكتابة، وتتعود ذاكرته على النسيان؛ لأنه لا يعوده على الحفظ، وبالتالي فإن أحاديث النهي محمولة على قوي الحفظ، وأحاديث الإذن محمولة على ضعيف الحفظ ما دام لا يحفظ جيدًا فليستعن بيمينه، وليكتب حتى لا يضيع منه العلم، ولا يختلط لديه العلم.