للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيوضح الإمام البوصيري أنه اتهم من قبل العذال بالشيب وكبر سنه، ويرد عليهم أن الشيب أبعد عما يلفق له من تلك التهم، فهو لا يأبه بالشيب الذي اشتعل في رأسه، ولكنه يخشى أن تشيب النفس وهى محملة من جهلها بالمعاصى وهو يملك القدرة على اخفاء هذا الشيب بالخضاب أو الحناء، ولكنه يعجز عن كتمان ما فعلته نفسه، فإن اخفيت هذه الأفعال عن البشر فإنه لا يستطيع أن يخفيها عن ربه سبحانه وتعالى:

ويقول البوصيري:

من لى برد جماح من غوايتها ... كما يرد جماح الخيل باللجم «١»

فلا ترم بالمعاصى كسر شهوتها ... ان الطعام يقوى شهوة النهم «٢»

فيقرر بأن النفس أمارة بالسوء ولا بد أن يردها الإنسان عن غوايتها، ويشبه الإمام البوصيري النفس المنحرفة عن الطريق المستقيم بالحصان الذي يجمح بفارسه فإن لم يرده راكبه فقد يقتله ويقتل نفسه، والإسراف في المعاصى لا يقتل رغبة النفس، ولكنه يزيد ميلها وانغماسها فيها كما أن كثرة الطعام تزيد رغبة النهم فيه ويقول:

والنفس كالطفل أن تهمله شب على ... حب الرضاع وان تفطمه ينفطم

فيخاطب المرء بأنه سيد حياته وأن ترك لنفسه الحبل على الغارب ادمنت المعاصي وأكثرت من الذنوب وأوردته نفسه مورد الهلاك، وهو إن زجرها امتنعت كالطفل إذا لم ينفطم ظل معلقا بثدى أمه- وهي حكمة بليغة يطرحها البوصيري للإنسانية جمعاء.

ثم يقول:

فاصرف هواها وحاذر أن توليه ... ان الهوى ما تولى يصم أو يصم «٣»


(١) من لي: أي من يكفل لي، الجماح: الشرود، غوايتها: ضلالها، اللجم: جمع لجام.
(٢) لا ترم: لا تقصد ولا تطلب، النهم: الشره كثير الأكل.
(٣) أن توليه: تجعله اليا عليك، يصم: حالة الجزم من يصمى مضارع اصمى أي يقتل، ويصم مضارع وصم أي شاب وعاب.

<<  <   >  >>