والمعاني التي في هذه الأنظمة الثلاثة "الصوتي والصرفي والنحوي" هي في حقيقتها وظائف تؤديها المباني التي تشتمل عليها وتنبني منها هذه الأنظمة. وقد رأينا من قبل كيف كان الوقف وظيفة السكون ونحوه, وكيف كان التخلص وظيفة الكسر, وكيف كانت الفاعلية وظيفة الاسم المرفوع, وكيف كانت المطاوعة وظيفة الانفعال. من هنا يكون "المعنى" وظيفة "المبنى", ويكون "المبنى" عنوانًا تندرج تحته "العلامة". ومن ثَمَّ أطلق الباحثون على هذا المعنى الذي تكشف عنه المباني التحليلية للغة اسم "المعنى الوظيفي" functional meaning, واضعين إياه بازاء المعنى المعجمي Lexical meaning أو المعنى المقامي Contextual meaning, أي: المعنى الذي لا يكتفي بتحليل تركيب المقال ولا بمعنى كلماته المفردة, وإنما يراه فوق ذلك في ضوء المقام Context of situation.
وليس المعجم نظامًا من أنظمة اللغة, فهو لا يشتمل على شبكة من العلاقات العضوية والقيم الخلافية, ولا يمكن لمحتوياته أن تقع في جدول يمثل احتباك هذه العلاقات على نحو ما سنرى في أنظمة الأصوات والصرف والنحو. فالمعجم بحكم طابعه, والغاية منه ليس إلّا قائمة من الكلمات التي تسمَّى تجارب المجتمع أو تصفها أو تشير إليها. ومن شأن هذه الكلمات أن تحمل كل واحدة إلى جانب دلالتها بالأصالة والوضع "الحقيقة" على تجربة من تجارب المجتمع, أن تدل بواسطة التحويل "المجاز" على عدد آخر من التجارب, فإذا وضعنا كلمة "المعاني" بدل "التجارب" صحّ لنا أن نقول: إن الكلمة المفردة "وهي موضوع المعجم" يمكن أن تدل على أكثر من معنى وهي مفردة, ولكنها إذا وضعت في "مقال" يفهم في ضوء "مقام" انتفى هذا التعدد عن معناها, ولم يعد لها في السياق إلّا معنى واحد؛ لأن الكلام وهو مجلى السياق لا بُدَّ أن يحمل من القرائن المقالية "اللفظية" والمقامية "الحالية" ما يعيِّن معنًى واحدًا لكل كلمة. فالمعنى بدون المقام "سواء أكان وظيفيًّا أم معجميًّا" متعدد ومحتمل؛ لأن المقام هو كبرى القرائن، ولا يتعيّن المعنى إلّا بالقرينة, ولقد سبق أن أشرت إلى أن علم البيان "وهو علم دلالات المفردات"