للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما الطيور بكل أنواعها فتراها تركن إلى ريش أجنحتها طالبة إليها عونا لم تقوَ عليه بعد".

ونحن لا نناقش نظرية أبيقور على العموم، ولكن أليس من الواضح أن عبارات لوكريس هذه تدل على وجود العلة الغائية، وعلى أن تلك العلة هي سبب خلق الأعضاء لا العكس؟ والمؤلف يستدل على إنكار أبي العلاء للعلة الغائية بقوله في الفصول والغايات: "يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقديمه ويسمع الأصوات بيده وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه ويشم الروائح بمنكبه ويمشي إلى الغرض على هامته".

ولست أرى هنا دخلا للعلة الغائية التي تربط بين العضو ووظيفته، وإنما هنا حديث عن قدرة الله الذي كان يستطيع لو أراد سبحانه أن يجعل من أبي العلاء مبصرا. وفي القرآن ما يمكن أن يوحى بمثله {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ... } ... إلخ. فما العلاقة هنا بين أبي العلاء وفلسفة أبيقور أو لوكريس؟ وهل هناك نفع من وراء هذه المقارنة أو داع إليها أو حقيقة لها؟ والمؤلف يبني على ذلك نتائج كثيرة تدل على مهارة في التفكير والعرض، ولكني أخشى ألا تلاقي حقيقة أبي العلاء النفسية، كما لا تلاقي حقيقة فلسفة لوكريس أو روحه.

وهناك بعد اتجاه عند نقادنا طالما حير اللب، فهم دائما يحاولون البحث عن أوجه شبه في مقارناتهم، وهذا اتجاه خاطئ، فالنفوس لا يمكن أن تتشابه، بل إن نفس الفكرة يعبر عنها أديبان فتكتسب من لون نفسيهما ومن الروابط بعوالم الحس والنفس الأخرى ما يجعلها أصيلة عند كل أديب منهما، على نحو ما تتكون أحاديثنا المختلفة من نفس ألفاظ اللغة الشائعة بيننا، بل على نحو ما تتكون تلك ذاتها من الحروف الهجائية المحصورة العدد، ومع ذلك تتنوع أفكارنا إلى غير حد كما تتنوع ألفاظ اللغة رغم انحصار وحداتها المكونة.

وهناك عدة أبحاث حول أبي العلاء صادرة عن نفس هذا الاتجاه، منها مقارنة حامد الصواف في كتابه عن عمر الخيام بين عمر وأبي العلاء، ومقارنة قسطاكي حمصي في كتابه "منهل الوراد في علم الانتقاد" بين دانتي وأبي العلاء، ومقارنة الأستاذ على أدهم في مجلة "الهلال" بين أبي العلاء وشوبنهور.

وكل تلك الأبحاث على اختلافها في الإصابة بعيدة فيما أحسب عن الحقيقة النفسية الثابتة وعن تمايز النفوس تمايزا لا يمكن أن ينال منه -بخاصة في النفوس الأصيلة- أي وحدة في الجنس أو الزمان أو المكان أو الثقافة، أو غير ذلك مما زعمه "تين" وغير "تين" من النقاد الشكليين، الذين فهموا كل شيء غير أصالة النفوس، واختلاف طرق انفعالها بما يحيطها من ناس وأشياء، بل بما يدور في حناياها من حس أو شعور أو فكر.

<<  <   >  >>