للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[نظرية عبد القاهر الجرجاني]

يخيل إليَّ أنه لا سبيل إلى الوقوف عند الكليات في مناقشة منهج الدراسة في الأدب، فها هو صديقنا الأستاذ خلف الله يرى أن ما أدعو إليه جاهدا لا يختلف إلا قليلا عما يقول، وأنا لا ريب يسرني أن أكون على وفاق تام مع الصديق، بل ومع كافة البشر؛ ولكنني أخشى أن يكون الخلاف أعمق مما يظن، وإن كان ثمة ما يخفف عن نفسي، فهو أننا نقتتل لغاية شريفة.

والذي أدعو إليه هو استقلال الأدب عن غيره من مظاهر نشاطنا الروحي، استقلاله بموضوعه ومناهجه، ولي في استقلال الفلسفة التي كانت تشمل قديما كل أنواع المعرفة أسوة حسنة. وأما ما يدعو إليه الصديق فذلك ما لا علم به؛ لأنه هو نفسه لم يستقر به على تحديده، وكم أود لو واجهنا الصديق برأي متميز يناهض به رأيي، إذن لاهتزت جوانحي فرحا، ولقلت ها نحن قد نضجت ملكاتنا فأصبحت لنا اتجاهات نؤيدها ويؤيدها معنا من يرى الأشياء كما نراها، وبهذا تكون لنا مدارس أدبية كما كانت لغيرنا من الشعوب.

يريد الأستاذ خلف الله أن يأخذ الأديب من كل شيء بطرف: علم النفس وجمال واجتماع، وأنا أعوذ بالله أن أكون عدوا للمعرفة، ولو أن أديبا أخبرني أنه يدرس الفك لشجعته على المضي في دراسته؛ لأن المعرفة -أي معرفة- إن لم تنفع كما يقولون فلن تضر ما حجزناها عن الأدب، وموضوع الخطر هو أن نقحم على دراستنا معارف أقل ما فيها من إضلال هو صرفنا عن أن نركز نظرنا في الأدب كفن لغوي، واهمين أننا نجدده إذ نتناوله بمبادئ علوم أخرى. وأما النظريات اللغوية، وأما علوم اللغة ومناهج اللغة، فذلك موضع دراستنا الذي نعتز به ونرى فيمن يستطيعه على نحو ما استطاعه عبد الظاهر كنزا ثمينا، المنهج الذي أدعو إليه هو المنهج الفقهي -منهج فقه اللغة- وسوف نرى ذلك المنهج يبتدئ بالنظر اللغوي لينتهي إلى الذوق الأدبي الذي هو لا شك متحكم في كل ما يمت إلى الأدب بصلة، وسواء في ذلك أردنا أو لم نرد.

ولنتخذ في إيضاح ما نريد سبيل البواقي، فندل بضرب المثل على ما ليس من

<<  <   >  >>