للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عثرت به وعثرت عليه ١:

لم يكن عزمي أن أرد على زكريا أفندي إبراهيم؛ لأن المناقشة لم تكن بيني وبينه، وإنما فعلت لأنني رأيته قد أثار مسألتين حسبت في إيضاحهما فائدة لعامة القراء. وقد اعتمدت في تأييد استعمالي "لعثرت به" على مبادئ لغوية عامة لم يقتصر العلم بها على الباحثين في عالم اللسان بل سبقهم إليها ولحقهم الفلاسفة وكافة المفكرين. فاللغات -كما قلت- مجازات ميتة في الكثير من مفرداتها، فنحن عندما نقول بالفرنسية مثلا abimer بمعنى "أتلف" نستعمل مجازا ميتا لم يعد يحس به أحد؛ وذلك لأن معنى هذا الفعل الاشتقاقي في اللغة الفرنسية هو "يلقى في هاوية" "هاوية: abime" وكذلك الأمر في اللغة العربية، فالرفعة والسمو والانحطاط مثلا، كل هذه الألفاظ كانت معانيها الأولى حسية، ثم ماتت تلك المعاني وأصبحنا نستعمل تلك الألفاظ في الدلالة على الصفات المعنوية المعروفة، وهكذا مما لا حصر له في كافة اللغات. ولقد كانت هذه الحقيقة من الأسس التي بنى عليها الفلاسفة الإنجليز أصحاب المذهب الحسي في المعرفة ومنابعها مذهبهم، وإذا لاحظوا أن معظم ألفاظ اللغة كانت في الأصل تدل على معان تدركها الحواس ثم انتقلت إلى المعنويات.

وعلى هذا يتضح لنا أن عثر في معناها الأصلي لم تكن تفيد الاطلاع مصادفة أو عن بحث في شيء. وإنما أفادت هذين المعنيين تجوزا، وحروف الجر في كافة اللغات من أدوات نقل المعنى، ومن ثم عندما نقول عثر بي أو عثر على، يجب أن نحدد المفارقات بين الاستعمالين تبعا لدلالة حرفي الجر ومنحاهما في نقل المعنى.

ولذي لا شك فيه أننا نقول: "عثر الجواد بحجر" ونكون بذلك في حدود المعنى الحقيقي؛ بحيث إذا تجوزنا أو قلنا عثرت بفكرة نكون أقرب ما يكون إلى مضمون المعنى الحقيقي أيضا. ومن الواضح أن في ذلك المعنى ما يدل على المصادفة؛


١ كان الأب الكرمي قد انتقد قولي "عثرت به" زاعما أنه خطأ وأن الصحيح عثرت عليه، فرددت بأن التعبيرين جائزان، وأن لكل منهما معنى خاصا على نحو ما ترى في المقال.

<<  <   >  >>