للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٢- النثر المهموس:

["أمي" لأمين مشرق]

بلغني أن أمين مشرق قد قتلته سيارة بأمريكا فحزنت، وراجعت نفسي في سر ذلك الحزن، وهذا رجل ما رأيته قط، ولا حدثني عنه أحد؛ وإنما هي مصادفات الحياة ساقتني وأنا أطالب إلى كتاب به مختارات لشعراء المهجر، فتحت لنغماتهم نفسي، واصطحبت الكتاب إلى أوربا سنوات، وعدت بكتابي القديم كما ذهبت به، وإن تكن جلدته قد ضاعت وأوراقه الأولى قد تآكلت، وأصبحت لا أعرف له عنوانا ولكنني أفزع إليه كلما ضاق الصدر أو عض ألم، فأجد بين صفحاته من عبير الروح ما يحيي الإيمان.

أمين مشرق بين من يضمهم كتابي، له فيه صفحات من الشعر والنثر، كما آنست من وحشتي ورفعت من قلبي، أنه صديق قديم.

لقد سبق أن تحدثت عن "الشعر المهموس" فتساءل نفر عن موضع الهمس من الأدب، ولكنني عندما أستمع لهؤلاء الشعراء لا أفكر في الأدب، أنهم يضعوننا أمام الحياة، ويسرون في همس صادق عميق، وهذا "نسيب عريضة" صاحب "يا نفس" التي خالفني في جمالها البعض، أعود أنصت إليه يهدهد طفله في "ترنيمة سرير" حزينة بموسيقاها المطردة:

ظلام الويل قد جنا ... وبوق الهم قد رنا

فنم يا طفل لا يهنا ... غنى بات شعبانا

قتام اليأس غطانا ... فنم لا عين ترعانا

إذا ما صبحنا حانا ... حسبنا الصبح أكفانا

ألا يا هم يكفينا ... لقد جفت مآقينا

لو أن الدمع يغذونا ... أكلنا بعض بلوانا

أنصت، فتجيش النفس كهذا البحر الذي تتلاطم أمواجه خلف أذني "في الإسكندرية"، ومن عجب أن تثيرنا تلك الموسيقى المطردة الهادئة١ التي لم يدرك


١ الوزن من الهزج "مفاعيلن مفاعيلن" وسر الهدوء والاطراد في هذه الموسيقى إنما أتى من غلبة المقاطع الطويلة، ففي كل تفعيلة مقطع واحد قصير ثم ثلاثة مقاطع طويلة هكذا "مع الرمز للمقطع القصير بالعلامة ب واللطويل بالعلامة -": ظ لا مل وي ل قد جن نا ٧---٧---.

<<  <   >  >>