للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الطفل سواها، وقد رنحته "الترنيمة" فنام، ولكنها قدرة الشاعر كقدرة الطبيعة، أولا ترى إلى البحر كيف يزيدنا صخبه إحساسا بالصمت ما أنصتنا إليه؟ موسيقى هادئة تحرك القلب، وصخب بحر يشيع به الصمت. إنني أخشى أن يكون التناقض كامنا في الحياة والوجود، ثم أي قوة في نفس الشاعر؟ نعم، "لا يهمنا غني بات شبعانا" عندما يبيت طفلي جائعا، دعاء بالنقمة، ولكن كم فيه من إنسانية، دعاء قوي لا يدفع أو يرد السيل إلى منابعه، وتتهافت النفس فإذا بالرجل يئن من قتام اليأس، وكأنه استوحش فود لو ترعاه عين، وهكذا يجتمع الضعف إلى الثورة، ولكنها نفوس صادقة، خيوط من الضياء والظلمة، ومن يدرينا لعلها عين الله، حيث يسوق ضعفنا البشري فنتعلق بشعاع، وإذا برحمته تمدنا بقوة ما لها أن تنفد، وإذا لاح الصبح "حسبنا الصبح أكفانا" هنا يصل الحزن من النفس إلا الأعماق، انظر كيف اجتمعت لذلك الحزن آياته: "ظلام الويل" و"قتام اليأس" ليست إلا مراحل تقود إلى "أكفان الصباح" قد تقول: ما لي وهذا الغم كله؟ ولكن الشاعر لم يكتب لك ولا لغيرك من ضيقي الخيال، لقد كتب لنفسه أولا، ثم لمن يستطيعون الإحساس معه.

لو آن الدمع يغذونا ... أكلنا بعض بلوانا

لست أدري بأي صفة أخص شاعرا يقول بيتا كهذا. لكن تأمل قليلا في فرضة: لو أن الدمع يغذونا أكلنا بعض بلوانا أنا وطفلي الجائع فما نملك غير البكاء. ولكنه لم يقل: لو أن الدمع يغذونا لأكلناه، ولو أنه فعل لظل رغم قوته دون تلك القدرة الخارقة. أي محنة أقسى من أن يعز على الرجل حتى التغذي ببلواه؟!

جددت ذكر الشعر المهموس؛ لأنني رأيت أن خصائصه ليست وقفا على الشعر. هناك أيضا نثر صادق كالأسرار يتهامس بها الناس، تسمعه فيخيل إليك أنه آت من أعماق الحياة، مثله كمثل نواقيس تلك المدينة التي جرت إحدى أساطير بريتانيا الفرنسية -فيما يحدث رينان- أن المياه قد ابتلعتها، ولكنها لم تسكت أجراس كنائسها التي تدق من حين إلى حين، وبخاصة عندما يستجم البحر فيسقط أهل الشاطئ نغماته المقدسة.

من هذا النثر مناجاة "مشرق" لأمه، وقد قست به الغربة:

"يا علة كياني ورفيقة أحزاني، يا رجائي في شدتي وعزائي في شقوتي، يا لذتي في حياتي وراحتي في مماتي، يا حافظة عهدي ومطية سهدي وهادية رشدي، يا ضاحكة فوق لحدي. أمي، وما أحلاك يا أمي!.

إذا تركني أهلي فأنت لا تتركيني، وإن ابتعد عني أحبابي فأنت لا تبتعدين،

<<  <   >  >>