للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإن نقمت على الحياة جميعها فأنت تصفحين وترحمين، أنت يا مسكنة وجعي وألمي، ومبيدة بؤسي وهمي، أنت وما أصفاك يا أمي!

قد غبت عنك يا أمي، فغاب عن عيني وجهك الباسم بملامحه الرقيقة الرزينة، ومعانيه الدقيقة الحنونة، وتراكمت على رأسي هموم الحياة بضجيجها الهائل، فضعضعت فكري، وزلزلت قلبي، وتقاذفتني أمواج المتاعب والشقاء، فغرت في لجج طامية وظلمات داجية، وبعينين غشي عليهما الرعب نظرت من أعماق قنوطي فرأيت وجهك اللطيف الثابت يبتسم إلى من الأقاصي البعيدة، فبكيت وبكيت وصرخت: يا أمي!

آه! ما أقسى الغربة وما أمر الوحشة! قد كرهت البقاء يا أمي، واشتاقت نفسي إلى ماضيها الأمين، قد كرهت التمشي بين القصور الفخمة وروائح العطور الفائحة من التماثيل المتخطرة في "برودواي" واشتاقت حواسي إلى رائحة الأمومة المتنشرة من "فسطانك" العتيق، فقد كرهت "نيويورك" وكرهت "أمريكا" وكرهت العالم، ولم يبقَ في الحياة إلاك، إلاك يا أمي.

في المساء عندما أنطرح على فراشي الخشن القاسي، أذكر يديك اللطيفتين الناعمتين، وفي الليل لما تمتزج أفكاري بأبخرة الأحلام أشعر بقديمك الصغيرتين، تنقران الأرض حول سريري، وفي الصباح أفتح عيني لأراك، فلا أرى غير جدران غرفتي السوداء، ولأسمعك، فلا أسمع غير أصوات الغرباء، وفي النهار أمشي بين النساء مفتشا متسائلا: أيتها النساء هل رأيتن أمي؟

جراء الكلاب تجلس في أحضان أمهاتها، وفراخ الدجاج تحتمي تحت أجنحة أمهاتها، وغصون الأشجار تبقى معانقة أمهاتها، وأنا -أنا وحدي- بعيد عنك، مشوق إليك يا أمي.

إذا مت! يا أمي، إذا قتلني وجدي ودفنت آمالي في هذه الأرض القاسية الغريبة، فاجلسي عند الغروب قرب غابة السنديان واصغي! هناك روحي امتزجت بنسمات الغابة وأشجارها يرتلن بهدوء متمايلات مرددات: يا أمي! يا أمي! يا أمي! ".

هذه أنفاس "أمين مشرق" أعيد قراءتها، ثم أستشعر ما فيها من حرارة ونبل. أوما تحس بروح جميلة يحزنك أن مات صاحبها، مات بعيدا عن "غابة السنديان"! وأي قرار أجمل من "أمي يتردد من حين إلى حين، فكأنك تلقى واحات بصحراء محرقة، واحات ناعمات الظلال: ما أحلاك يا أمي! ما أصفاك يا أمي!

<<  <   >  >>