للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وصرخت يا أمي، هل رأيتن أمي؟ إني مشوق إليك يا أمي.. كم تسكن النفس إلى هذا القرار! وماذا يذكر عن أمه؟ يذكر فتات الحياة التي عرف كبار الشعراء كيف يلتقطونها بأنامل ورعة. يذكر يديها اللطيفتين الناعمتين، ووقع قدميها الصغيرتين حول سريره. يذكر "فسطانها" العتيق وبيتهم الصغير المنفرد، ومن قبل ما حز في نفس "كوبر" أن كانت أمه إلى مهده في ظلام الليل تغطيه خوفا من أن يصيبه برد. هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تحركنا؛ لأنها نسيج الحياة، نسيجها الحقيقي. وبهذه التوافه عبر المرهوبون من الأدباء عن أكبر المشاعر. وموضع الإعجاز هو أن نقول الأشياء الكبيرة بألفاظ صغيرة. ولا تحسبن أن هذا أمر هين، فليس أشق من أن نلاحظ ما نراه كل يوم.

وبعد، فهناك شعر صادق جميل، وهناك نثر صادق جميل، سميتهما مهموسين لأعبر عما يثيره التعبير الفرنسي a mi voix الذي نستطيع ترجمته حرفيا بـ" نصف الملفوظ" والمعنى في نفسي ليس واضحا تمام الوضوح؛ لأنه في الحق إحساس أكثر منه معنى، وإنما أستطيع أن أوحي للقارئ بشيء منه إن قلت: إنني أقصد إلى ذلك الأدب الذي سلم من الروح الخطابية التي غلبت على شعرنا التقليدي منذ المتنبي، وتلك روح إن لم تواتها القوة التي امتلكها كبار أصحاب تلك النزعة كالمتنبي وهيجو، ثم تلك الموسيقى الرنانة التي تنزل بالنفس الدوار، فيأخذنا ما يشبه الثمل، فنطرب دون أن نتمهل في إدراك معنى أو تحقيق صورة، أقول: إن تلك النزعة إذا خلت من هاتين الخاصيتين: قوة النفس وموسيقى اللفظ أفسدت الشعر. هذا من الناحية السلبية، الشعر المهموس لا خطابة فيه، وأما من الناحية الإيجابية فهو أدب يصاغ من الحياة وكأنه قطع منها، فيه ما في الحياة من تفاهة ونبل، فيه ما فيها من عظمة وحقارة، فيه ما فيها من ضوء وظلام، أدب حياة، والحياة شيء أليف، شيء قريب مني ومنكم، تلقاها فتتعرف إليها للحظتك، وتستمع إلى سرها فتصدقه؛ لأن قلبك قد أحس في غموض بذلك السر، وجاء الشاعر يهمس إلى فيبصرك بمكانه، لهذا تهتز مشاعرك.

لست أدري أأفصحت أم لا، ولكني في الحق أعتمد على نفاذ روح القارئ؛ لأني يائس من أن أحمل إليه ما في نفسي حملا تاما؛ ولهذا أترك له دائما مشاطرتي التفكير والإحساس. عليه أن يصل ما أقطع، وأن يفصل ما أجمل، وأن يضفي على الإشارة ما خلفها، عليه أن يجهد كما أجهد، وإلا أصبح عبثا ما نكتب، إنه عندئذ

<<  <   >  >>