للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٣- الهمس في الأناشيد:

تحدثنا في مقالات سابقة عن الهمس في الشعر والنثر، وكانت مناقشات يمجها الذوق الخلقي، فقد أرى البعض في رفاهة الحس ولطافة الروح أنوثة، ورددنا بأن ذلك ليس وقفا على النساء؛ إذ من الواضح أن الله لم يقصر بعض الصفات على جنس دون جنس، وإنما نحن بإزاء نسب، وكنت أظن أن الحديث كله دائر على الرجولة والأنوثة من الناحية النفسية، وأما عن الناحيتين الأخلاقية والاجتماعية. فذلك ما لم يخطر لي ببال في مجادلة رجال يتصدون لتثقيف الجماهير، وكم كانت دهشتي عندما رأيت كاتبا يذهب إلى أبعد من الرجولة الأخلاقية والاجتماعية، فيدعي "أني أفخر بمشابهة المرأة في تكوينها" مع أنه يعرف معنى كلامي حق المعرفة، بدليل أنه قد فطن هو نفسه منذ سبعة عشر عاما فيما يقول إلي: "أن حب تاجور أقرب إلى عطف الأنوثة ورحمة الأمومة. فإن فاصل الجنس ليس من المناعة والجسم بالمكان الذي يتوهمه أكثر الناس"، وأنا لم أقل غير هذا. فالحديث -كما قلت- لم يعد الناحية النفسية، ومع ذلك يسف الكاتب فيعتقد أنه قد وصل مني إلى شيء عندما قال: "إنني أفخر بمشابهة المرأة في تكوينها"! وأكبر ظني أن الإنسانية كلها مجمعة على أن "أنوثة" قادة البشر من "كبار الرجال" الذين وصفوا بتلك الصفة مثل تاجور، ورينان ولامرتين، وشنييه، وغيرهم، خير من "رجولة" صاحبنا وأذنابه أولئك مخلدون حباهم الله تفكير الرجال وإحساس النساء وسذاجة الأطفال، وهؤلاء لا تسمع منهم إلا صلفا وغرورا ومهاترة مخزية.

ولنترك هذا الحديث الذي ينزل بالقلوب إلى آخر يرتفع بها، وأمامي الآن نشيد من الشعر اللبناني تذكرته إذ جاءني خطاب يخبرني بوفاة فؤاد البعلبكي، أحد الطلاب اللبنانيين بجامعة فؤاد، ولكم طربنا أساتذة وطلبة لصوت هذا الراحل الكريم وهو يتغنى به من جوقة من إخوانه، تعاودني هذه الذكرى فيزداد حزني لوفاة ذلك الشاب الرقيق الصوت، الأنيق السمت، العزيز النفس، الطيب الخلق، ألا يرحمه الله! وأتلمس سر طربنا لهذا الشعر، فأرى فيه إلى جانب الأنغام خاصيتين

<<  <   >  >>