للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الذوق عند الجرجاني]

يقول الجرجاني: "وإذا قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها ونهاية لا تجد لها ازديادا بعدها، ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها مع بعض واستعمال بعضها مع بعض"، "وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصورة والنقوش، فكما أنك ترى الرجل قد تهدى في الأصباغ التي عمل منها الصورة، والنقش في ثوبه الذي نسج، إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ وفي مواضعه ومقاديرها وكيفية مزجه لها وترتيبه إياها إلى ما لم يهتد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب وصورته أغرب، كذلك حال الكاتب والشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم".

وهذا ينتهي بنا إلى ما نراه اليوم وما ندعو إليه جاهدين من أن النقد وضع مستمر للمشاكل، وأن لكل جملة أو بيت مشكلته التي يجب أن نعرف كيف نراها ونضعها ونحكم فيها، وهذا هو النقد الموضوعي الذي نؤمن بفائدته وهو بعد ليس بالأمر الهين؛ لأنه لا بد لنا كما يقول روسو من فلسفة كبيرة لنلاحظ ما يقع عليه بصرنا، ثم إن الملاحظة لا تكفي بل لا بد من وضع الإشكال، ووضعه -فيما يحكي المثل الأوربي- حل له، ومن ثم حكم فيه.

لا بد إذن من الحكم على النظم الذي أمامنا من حيث إنه يجمع بين معانٍ متباينة، ونحن بعملنا هذا لا نقف عند الألفاظ بل ولا عند الجمل، وإنما ننظر في المعنى عند تمامه والفراغ من تأليف عناصره، ننظر في المعنى منظوما، ومن البين أن الذوق هو الفيصل الأخير في الحكم على هذه الدقائق. وإلى هذا فطن الجرجاني بحسه الأدبي الصادق، فكتب تلك الصفحة الرائعة التي يوردها كاملة لأهميتها البالغة، قال: "أعلم أنك لن ترى عجبا أعجب من الذي عليه الناس في أمر النظم؛ وذلك لأنه ما من أحد له أدنى معرفة إلا وهو يعلم أن هاهنا نظما أحسن من

<<  <   >  >>