للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نظم، ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصرهم بذلك تسدر أعينهم وتضل عنهم أفهامهم، وسبب ذلك أنهم أول شيء عدموا العلم به نفسه من حيث حسبوه شيئا غير توخي معاني النحو، وجعلوه يكون في الألفاظ دون معاني، فأنت تلقى الجهد حتى تميلهم عن رأيهم؛ لأنك تعالج مرضا مزمنا وداء متمكنا. ثم إذا أنت قدتهم بالخزائم إلى الاعتراف بأن لا معنى له غير توخي معاني النحو، عرض لهم من بعد خاطر يدهشهم حتى يكادوا يعودون إلى رأس أمرهم، وذلك أنهم يروننا ندعي المزية والحسن لنظم كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيء يتصور أن يتفاضل الناس في العلم به، ويروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني النحو ووجهه على شيء نزعم أن من شأن هذا أن يوجب المزية لكل كلام يكون فيه، بل يروننا ندعي المزية لكل ما ندعيه له من معاني النحو ووجوهه وفروقه في كلام دون كلام.. والداء في هذا ليس بالهين ولا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان فيه مع كل أحد مسعفا والسعي منجحا؛ لأن المزايا التي تحتاج أن تعلمهم مكانها وتصور لهم شانها أمور خفية ومعان روحانية أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها وتحدث لها علما بها حتى يكون مهيئا لإدراكها وتكون فيه طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساسا بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة، ومن إذا تصفح الكلام وتدبر الشعر فرق بين موقع شيء منها وشيء، ومن إذا أنشدته قول أبي نواس:

ركب تساقوا على الأكوار بينهم ... كأس الكرى فانتشى المسقى والساقي

كأن أعناقهم والنوم واضعها ... على المناكب لم تعمد بأعناق

أمن لها وأخذته الأريحية عندها ... وأنت تقول في محاجتك على استشهاد القرائح وسبر النفوس وفلها، وبهذا يعود عبد القاهر إلى النقاد الكبار أمثال ابن سلام والآمدي وعبد العزيز الجرجاني الذين يرون في الذوق وفي "ستشهاد القرائح وسبر النفوس" المرجع النهائي في كل نقد أدبي صحيح.

والآن قد يتساءل قارئ يقظ من أين يدخل الذوق؟ والذوق لا يكون إلا حديث نسلم للكاتب بحرية في اختيار طرق العبارة عما يريد. وعبد القاهر نفسه لا يرى هناك اختيارًا ما، وعنده أن المعنى لا بد متحكم في اللفظ، والجواب على هذا الاعتراض خليق بأن يزيد النظرية وضوحا، وصاحبها ينكر أن تكون المزية في اللفظ، وإذن

<<  <   >  >>