للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فهو لا يحكم الذوق في الموازنة بين ألفاظ ممكنة، وإنما المزية في المعنى، وفي المعنى تكون المفاضلة، وفي المعنى يكون الاختيار، والأمر ليس نظما لألفاظ بل نظما لمعان، فنحن نحكم الذوق في اجتماع بعض المعاني إلى بعض، ويحتال عبد القاهر ليخضع اللفظ أيضا للذوق فتأتي عبارته عن المعنى مضمنة للمعنى الملفوظ، أي المعنى المعبر عنه، وفي هذا إفراط في الدقة يكاد يمس المغالطة، ولكننا في الحق نستطيع أن نقبل منه هذا الاحتيال إذا نظرنا للمسألة نظرة تاريخية، فذكرنا طغيان اللفظية في ذلك الحين، ومحاربة عبد القاهر لها بكل قواه، وكلنا لا ريب يذكر ذلك التكلف الثقيل الذي ظهر عند أنصار البديع في الشعر، ثم امتد النثر فأتلف أسلوب الصاحب ابن عباد وأبي هلال العسكري وجانبا من أسلوب ابن العميد نفسه.

ويتحكم الذوق إذن عن الجرجاني في نظم المعاني التي نعبر عنها. خذ لذلك مثلا تعليقه على أبيات إبراهيم بن العباس:

فلو إذ نبا دهر وأنكر صاحب ... وسلط أعداء وغاب نصير

تكون على الأهواز داري بنجوة ... ولكن مقادير جرت وأمور

وأني لأرجو بعد هذا محمدا ... لأفضل ما يرجى أخ ووزير

"فإنك ترى من الرونق والطلاوة ومن الحسن والحلاوة، ثم تتفقد السبب في ذلك فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو "إذ نبا" على عامله الذي هو تكون، وإن لم يقل: فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر، ثم إن قال: تكون، ولم يقل: كان، ثم نكر الدهر ولم يقل: فلو إذ نبا الدهر، ثم إن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى من بعد. ثم إن قال: وأنكر صاحب، ولم يقل: وأنكرت صاحبا، لا ترى في البيتين الأولين شيئا غير الذي عددته لك يجعله حسنا في النظم وكله من معاني النحو كما ترى".

وبالإمعان في ملاحظات ناقدنا نجدها ترجع إلى مفارقات في المعاني. وألوان النفس هي التي حددت اختيار الشاعر وضمنت له الجودة، جودة العبارة عما في نفسه بدقة، تبصيرنا بالألوان النفسية لتلك المعاني. فهو قد قدم الظرف على عامله، قدم "إذ نبا" على "تكون" وذلك لأنه لم يتمن أن تكون داره بنجوة على الأهواز إلا عندما نبا دهر، وفي هذا النبو ما يحز في نفس الشاعر، وكأني به قد سارع إلى نقصه، ثم هو

<<  <   >  >>