للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[أرواح وأشباح الشعر والأساطير]

جميل جدا أن نتخذ من الأساطير مادة للشعر، وقد سبقنا إلى ذلك شعراء كبار، ولكن على شرط أن ننجح كما نجحوا، وما يجوز أن نمل تكرار ما قلناه من وجوب تملك موضوعنا، كما تملكوه؛ إذ إننا لن نستطيع أن نخلق من أسطورة معروفة قِيَما فنية جديدة ما لم نتمثلها حتى تصبح جزءا من أصالتنا، ولا أدل على صحة ما نقول من النظر فيما فعل شعراء ثلاثة مختلفون بمناحيهم النفسية اختلاف شنييه وشيلي وكيتس.

شنييه شاعر فرنسي ولد لأم إغريقية غذته بالروح اليونانية الخالصة، فإذا به في سذاجة القدماء ورقتهم ولطف حسهم. تناول هذا الشاعر أساطير اليونان يقصها في يسر لا يبغي منها غير التأثير العاطفي الذي تحركه وقائع بسيطة يرويها بأسلوب سهل ونغمات سيالة؛ فهيلاس فتى جميل يذهب إلى النهر يستقي الماء في إناء، وتلمحه عرائس اليم فيقع في قلبهن، وما يزلن به إغراء وسحرا حتى يجتذبنه إلى المياه التي تطويه أمواجها، ويختفي الفتى وصوت صديق له يناديه. وفتاة تارنت جميلة حملتها القلاع إلى زوجها القصي، وفيما هي فرحة تبتسم للمستقبل، وقد نهضت بمقدم السفين، ترسل بصرها المشرف في آفاق السماء؛ إذ هبت عاصفة حملتها إلى اليم، وعصافير السماء تغرد فيزيدنا تغريدها شجوا، وهذا كل ما نجده عند شنييه: موسيقي وإحساس.

أما شيلي فعقل يفكر؛ ولذا لم يعنه من الأساطير غير معانيها الرمزية، وهو إلى جانب ذلك شاعر؛ ولذا نراه يعالج الفكر بأسلوب الشعر، وصور الشعر، وموسيقى الشعر، وهذا واضح في روايته عن "بروميثيوس" حيث يتخذ من هذه الشخصية الخرافية رمزا للبشرية التي تثور ضد ظلم الآلهة، وقد أصبحت الإنسانية عنده خيرا صراحا، وأصبحت الآلهة شرا عنيدا. ومن البين أنه لولا عبقرية شيلي الشعرية، لجاءت روايته باردة ميتة ككل شعر يصدر عن الفكر المجرد. وإذن فباستطاعة الشاعر الموهوب أن يجازف بقيثارته في عالم الرموز -على مشقته

<<  <   >  >>