للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"تاريخ النقد عند العرب" في معرض الحديث عن مذهب أصحاب البديع كأبي تمام ومن نحا نحوه: "إن صاحب البديع يفكر مرتين: مرة للفكرة ومرة لتحويرها والتطلف بها حتى تسكن للبديع. من المعلوم أن الصياغة حركة ذهنية عند الكاتب والشاعر، فإن تعقدت هذه الحركة لم يكن لنا أن ننتظر إلا عبارات معقدة وإلا نفسا فاترا، كلما هم باطراد وقف به الحرص على الزخرف، وحال بينه وبين الجيشان والاسترسال تلمس المحسنات؛ ولذلك فإن التكلف أول ظاهرة في مثل هذا الشعر".

وهذا الحكم دون ما يستحق أسلوب بشر فارس وأدبه؛ وذلك لأنه لا يفكر مرتين فقط بل عشر مرات. والأصالة ليست في الإغراب، ولا في تسمية الأشياء بغير أسمائها، ولا في تضخيم التوافه، ولا في التكلف الثقيل المعيب، وإنما الأصالة في النفس وموسيقاها، الأصلة في الطبع واسترساله، فهل ترانا نؤدي خدمة إلى بشر فارس، عندما نقول له هذه الحقائق التي يجب أن يسمعها من رجل مخلص كان يود أن يستمتع بما في قصصه أمثال "خريف" و"مبروك" من واقعية مؤثرة، وبما في "قيثارة مغترب" من جو شعري نافذ، وأخيرا بما في "رجل" من رمزية موحية.

وموضوع هذه القصة جدير بالنظر لما نحسه جميعا من أن التطلع إلا ما لا قبل لنا به خليق بأن يقتل فينا العنصر الإنساني. نعم كنت أود أن أستمتع بكل ذلك وحاولت أن أستمتع، ولكن التكلف أتلف عليَّ متعتي، التكلف البادئ في كل شيء حتى في عناوين القصص وطريقة كتابتها "بخط المؤلف" ووضع "المشتمل" أي الفهرست"، وحتى في استشهاد الكاتب بنفسه وتقفيته عنوان الكتاب بجملة من روايته "مفترق الطرق" وكتابة عنوان المجموعة باللغتين العربية والفرنسية، ثم في الإهداء إلى "من هذبني فشعرت".

وأخيرا في شرح مذهبه في القصة نقلا عن حديث له أوردنا أسانيده في أمانة كما أوردها المؤلف نفسه. وهذه توافه يجب أن يسمو فوقها الأدب، وأنا لن أمل تكرار ما سبق أن قلته عن وجوب التواضع والإخلاص وصدور الأديب عن طبعه وترك الطنطنة إلى الهمس الصادق، كما أني على ثقة من أنه ستظر عندئذ في أسلوب بشر فارس تلك الموسيقى التي حطمها التكلف واحتباس النفس والانتقال من المحسوس إلى المعنوي انتقالا مصطنعا، كما ستظهر وحدة النسيج ويختفي ما نراه عنده اليوم من تنافر بين الألفاظ المهجورة الثقيلة النغمة، والألفاظ التافهة المبتذلة التي تشبه العامية.

<<  <   >  >>