للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي القصة الثالثة "السفينة" يصف المؤلف أثاث حجرة فإذا بها "طنافس، لو قصدت بها إلى أمريكا الشمالية فبعتها لرجعت وفي قبضتك ما يجذب فريقا من نواب أمة راقية" فانظر إلى المرور من الوصف إلى هذه الحقائق السياسية الدفينة، ثم تصور قيمة هذه الطنافس، أليست غالية جدا؟! "وأمينة" بطلة القصة تستند إلى "شطء" النيل: أمينة "نيل آخر" وبودي أو لو جعلها "جدولا"، ليستريح الكاتب فلا يعود يدهش عندما يرى سفينة تسير في النيل ويتساءل: "هل تستأذن الماء في الجريان أو تعتذر إليه عن شقه؟ " وهذه أشياء ما أشك في أنها قد فاتت السفينة، وأملي أن تفوت السفن كلها إلى يوم الدين وألا يلاحظ ذلك أحد!

وقد يغلب الكاتب شعوره الإنساني فيشرك القارئ معه: "أيها القارئ الجوعان مع رقة حال، أنت أدرى بفضل الخبز الكثير" فأي رقة وأية إنسانية وأي فهم لحقائق النفوس! "والبورش" التي هي شربة خضار روسية "حساء تلتقي فيه ألوان البقول بعد تبعثرها في الحقل -تلتقي هالكة في لحد واحد" واللحد هو "القدر" أو "الصحن" الذي تقدم إليك فيه؛ ولكن الصحن البائس أصبح "لحدا" يشعرك ببؤس صاحبه وينشر في الجو تلك الرومانتيكية النادرة المؤثرة!!

والمؤلف يرى رجلا جالسا إلى جواره على مقعد بأحد شوارع باريس أمام مسرح فيخيل إليه "أن يحمله إلى داخل الأوبرا؛ لأن يكون أخف محملا على سمعه وضربانا في قلبه". من أن يثقل على الرجل فيقص عليه مأساته، ثم يرى في الأقصر بائع عقود "في عينيه سلم أضواء من الأبيض حتى الأرجواني، فكأنما طول تحديقه إلى عقوده وهو يزينها للناس ترك في مقلتيه بريق الأحجار، إلا أنه بريق كاذب". فهل رأى أحد بصرا أحَدَّ من هذا البصر الذي يرى سلم أضواء في عيني هذا البائع النصاب؟ وهل نفذ أحد إلى نفسية هؤلاء الباعة نفاذ مؤلفنا الذي ترجم لنا نفاقهم وكذبهم وخداعهم بألوان أعينهم، وفسر وجود كل تلك الألوان بها هذا التفسير الرائع؟!

وأخيرًا، كم جلس مؤلفنا مع صديقه زكي في قهوة "تعدت على استقلال الشارع وليس فيها امرأة"؛ وذلك لأنه قد وضعت بعض كراسيها على الرصيف، وهذا طبعا اعتداء على "استقلال الشاعر"! وما نسمع نحن باعتداء على الاستقلال حتى نغضب وتثور عزتنا القومية، خصوصا وأنه ليس لهذه القهوة المعينة ما يشفع لها وقد خلت من النساء.

وبعد فقد قال الأديب الصادق الذوق المرحوم طه إبراهيم في كتابه القيم

<<  <   >  >>