للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والواقع أن النقد ليس بالمهمة الهينة، ولا هو في مقدور كل إنسان؛ إذ لا بد لمن يريد أن يحاوله أن يكون غنيا بتجارب الحياة غنى يذهب بما في النفس من جمود، بحيث تستطيع أن تخرج من محيطها لتعيش بالخيال في محيط جديد، وهذا يحتاج إلى مرونة نفسية لا تكتسب إلا بإحدى أمرين: إما بالتجارب المباشرة، وإما بالمران الطويل على فهم تجارب الغير كما يقصها الأدباء.

ولقد ضرب النقاد عندنا في فهم روح أبي العلاء كل مضرب. وفي الجزء الثالث من رسالة الغفران طبعة الأستاذ كامل الكيلاني آراء عديدة لكثير من كبار مفكرينا وأدبائنا، ولكنهم في الغالب لم يخضعوا أنفسهم لمنطوق أدبه، بل أتاه كل منهم بفكرة سابقة في مسألة من المسائل التي يثيرها، وهذا موضع الداء عندنا وأكبر دليل على أننا لا نزال بعيدين عن النضج الأدبي المنشود، الذي يخضع للفن وينتزع منه مدلوله بدلا من أن يملي عليه رأيا كونته لنا من قبل ثقافتنا الإسلامية أو مطالعتنا في كتب الأوربيين.

فبين يدي الآن رأي للأستاذ عبد الوهاب النجار، يقرر فيه أن أبا العلاء "كان متين الدين قوي اليقين، وأنه كان شديد الوطأة على منتحلي التقوى المتظاهرين بالدين والتصوف"، وأنه "لم يقصد بالدين هزؤا ولا سخرية، وإنما هو شيء جر إليه الخيال الشعري وأملاه حب الإغراب في التصوير". ومن الواضح أن رحمة الله واسعة وأن أبا العلاء في غير حاجة إلى هذا الدفاع قدر حاجتنا نحن إلى فهم محنة ذلك الرجل ومشاركته إياها لنثري ونفيد، وكذلك الأمر في رأي ذلك المفكر الروحي الأستاذ فريد وجدي، فهو يصدر فيه عن فكرة سابقة عن حقيقة الإيمان يحاول أن يطبقها على أبي العلاء دون أن يبصرنا بكيفية استقرائه لها من أدبه، فهي كالقالب يريد أن يصب فيه إيمان أبي العلاء أراد أبو العلاء أو لم يرد، وذلك حيث يقول: "إذا كان التدين هو الخضوع لصورة ذهنية تنتحل صفات علوية منتزعة من الصفات البشرية، والتأمل في الرذائل خوفا من عقاب، والتحلي بالفضائل طمعا في ثواب، والتقليد في العبادات والمعاملات، وإهمال أحكام العقل والنظر، والجمود على حالة نفسية لا تتغير، والاستعصاء على ناموس الترقي، قلنا: إذا كان التدين هو تقمص هذه الروح فإن أبا العلاء لم يكن متدينا، ولكن إذا كان التدين -على ما نفهمه اليوم من معنى الإسلام- هو محو كل صورة ذهنية وتعريض صفحتي العقل والقلب للوجود المطلق رجاء أن ترتسم عليها الحقيقة تحميها الشكوك من عبث الخيالات، والثورة على كل تقليد يناقض بداهة

<<  <   >  >>