للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كليهما على ضوء ما اختلفا فيه تبعا لاختلاف منحاهما النفسي رغم وحدة الموضوع الذي يتحدثان فيه أو المصدر الذي يأخذان عنه، وهذا ما لم يفعله العقاد وإنما فعل وفعل دائما أن حاول التماس أوجه شبه بين أناس وأشياء من السذاجة أن نجمع بينهما، فهو طورا يقول بأن أبا العلاء قد كان اشتراكيا وطورا أنه قد أخذ بمبدأ النشوء والارتقاء وبقاء الأصلح "الفصول"، وهذه محاولات باطلة، فأبو العلاء لم يحلم بشيء من هذا، ومذاهب الاشتراكية والنشوء غير بيت من الشعر أو جملة منثورة، وإنه لتعسف باطل أن يزج العقاد بتلك الكلمات الضخمة في معرض الحديث عن شاعر مسكين كأبي العلاء.

وشاء العقاد إلا أن يختم حديثه بتذكيرنا بقوله عن رسالة الغفران: "أي شيء من هذه الأشياء لم يكن من قبل ذلك معروفا موصوفا؟ أي خبر من أخبار الجنة المذكورة لم يكن في عصره معهودا للناس مألوفا؟ كل أولئك كان عندهم من حقائق الأخبار ووقائع العيان ... ".

وهذا كلام لا علاقة له أصلا بموضع المناقشة، فهو لا يدل في شيء على "أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان", إنما يدل على فكرة الجنة وأوصاف الجنة كانت معروفة عند الناس، كما وردت في الديانات والكتب المقدسة، وإما أنها لم تستخدم في الأدب قبل أبي العلاء إلا عند لوسيان، فهذا ما لم يرد عليه العقاد.

ثم إن هذه الجملة في ذاتها تأكيد آخر من تأكيدات العقاد غير المقبولة، فأبو العلاء لم يعرف الجنة، كما كان الناس يعرفونها أو يتصورونها، والجانب الهام من جنته هو دنيانا أو على الأصح دنيا العرب؛ إذ إنه قد نقل الدنيا إلى الآخرة، وقد جمعت تلك الدنيا بتاريخها الطويل في صعيد واحد، فهناك ترى الهذلي يحلب ناقته، وبان القارح محمولا زقفونة على الصراط، وابن عدي يصيد، والأعشى في عينه حور، وكل أولئك أشياء لم يكن يعرفها أحد عن الجنة بل لا يتصورها مجرد تصور، وما هي من الجنة كما وصفها القرآن في شيء.

ويضيف العقاد تذكيرنا بقوله: "إنها رحلة قديمة؛ ولكن أبا العلاء أعادها علينا كأنه قد خطا خطواتها بقدميه، وروى لنا أحاديثها كأنما هو الذي ابتتدعها أول مرة ... ". وموضع البحث هو -كما قلت وأكرر- أن نعرف مدى قدم تلك الرحلة ومن سبقه إليها، أهو لوسيان فقط أم لوسيان وغير لوسيان ممن ذكرنا.

والآن لم يبقَ لدي إلا أن أترك للقارئ الحكم على طريقة الأستاذ العقاد في توجيه الخطاب من "لا يا شيخ! " إلى أمثال ذلك مما أمسك قلمي عن الرد بمثله، فهذا أمر سهل.

<<  <   >  >>