للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كما أتى غيره ممن تلقاهم وتسمعهم بكل سبيل، من معرفته معرفة ناقصة مبتسرة ببعض الجمل التي أذاعها المبسطون بأوربا كعبارة أرنولد عن الأدب أنه "نقد للحياة" وعبارة كارل ماركس عن فلسفة التاريخ "بمادية التاريخ" أي تحكم نظم الاقتصاد في تطور التاريخ، ورسم الخطة لذلك التطور، وأما أن يتمهل كاتبنا في فهم ما يعنيه أرنولد "بنقد الحياة". وأما أن يمعن النظر في العوامل الإنسانية غير المادية التي لا تقل أثرا عن النظم الاقتصادية في السيطرة على سيرة التاريخ، فذلك ما لا يريده كاتبنا، ولعله لا يستطيعه.

لقد أصبحت عبارة "نقد الحياة" Criticism of life عند كاتبنا مرادفة "للاهتمام البارز بالحياة وأنباء الحياة"، و"إدراك ما للنظم الاقتصادية من المؤثرات الأولى في حياة الناس والجماعات روحيا ونفسيا ومعنويا"، وبذلك يوفق -فيما يظن- بين نظرية أرنولد في الأدب، ونظرية ماركس في فلسفة التاريخ، ويكون حتما على الأدب أن يكون همه الأول مثلا الحديث عن الصناعة بمصر وما تبشر به نشأتها من نمو الوعي السياسي عند طبقة العمال، وعن توزيع الثورة في مصر وطرق إعادة ذلك التوزيع على أساس جديد، وما شاكل ذلك.

وإما أن يتحدث الأدب عن حياتنا النفسية، وإما أن يمد الأدب من آفاق تفكيرنا، وإما أن يرهف الأدب إحساسنا، وإما أن نحاول بعث ماضينا، أو نشر الثقافة الحرة، فكل هذا هراء وادعاء وحذلقة، ولو صح هذا لوجب أن نوفر جهدنا على الصحف الحزبية اليومية نبشر فيها بهذا المذهب أو ذاك.

والداء بعد أعمق من كل ذلك، فهناك خلط مخيف بين الثقافة الحرة والتفكير العلمي، هناك عدد من الناس يظنون أننا لسنا بحاجة إلى الثقافة الحرة؛ لأن هذه الثقافة لا يحتاجها إلا المرهفون المنعمون الأغنياء، وما نحتاجه نحن إنما هو التفكير العملي أي التفكير السياسي الذي يخفف بالحلول التي يدعو إليها، والتي قد ينجح في تنفيذها؛ من فقر البؤساء والمحرومين والمظلومين، وكاتب هذه السطور ليس بغافل عن البؤس والجهل والمرض، ولا عن فتك الأوبئة بمواطنينا، ولقد سبق له أن تحدث عن ذلك في "الثقافة" بعنوان "بؤسنا المادي" ولكنه يرفض الخلط بين الأشياء، ويرى في هذا الخلط جهلا مخيفا يجب أن يحاربه بكل قوته.

مثل من يزعمون أن الثقافة الحرة ترف لا نفع من ورائه كمثل من يقول للدول المحاربة: إن من واجبك أن تغلقي جامعاتك ومعاملك؛ لأنك لست في حاجة إلى التفكير الخالص. بل في حاجة إلى مصانع للذخيرة والمؤن، وناصح كهذا لا يدل

<<  <   >  >>