للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أحيانا، كوصفه لدهشة آمنة عندما سمعت اللغة الفرنسية لأول مرة وتساؤلها كيف يمكن أن تكون هناك لغة غير ما تعرف من لهجة مصر ولهجة الريف ولجهة البدو، حتى لكأنها لم تسمع قط "خرستو" بقال "الناصية" يتكلم اليونانية.

وأما الإسراف فذلك ما يطالعك في أكثر من موقف من مواقف القصة؛ حيث ترى الكاتب يسرف في اللفظ فيذيب الإحساس ويذهب بالتأثير، انظر مثلا إلى هذه المقابلات اللفظية: فصوتها مضطرب "ممزق" "يتمزق" له قلبي كلما ذكرته، وانظر إلى المفعولات المطلقة في قوله: "فهزت جسمها هزا، ثم انهمرت دموعها انهمارا، ثم احتبس صوتها فإذا هي تضطرب اضطربا عميقا". ونحن نفهم المفعولات المطلقة التي تصحبها صفات تحدد من الحدث. وأما تلك التي لا يقصد منها إلى غير التأكيد أو المبالغة فأكبر الظن أن ما قد يساوقها من موسيقى لا يكفي لتبريرها.

وإسراف الكاتب لا يقف عند الأسلوب، بل كثيرا ما يمتد إلى الإحساس ذاته يبسطه حتى يشف. تقول آمنة في وصف مواساتها لأختها بدوار العمدة: "وأنا أجثو إلى جانبها وأضمها إليَّ وأقبلها وأحاول أن أرد إليها الهدوء والأمن وسكون النفس ما وسعني ذلك، حتى إذا مضى وقت غير قصير سكن جسمها بعد اضطراب وانطلقت أنفاسها بعد احتباس، ومضت دموعها تنهمر وآوت إلى ذراعي كأنها طفل قد استسلم إلى أمه الرءوم، واطمأن رأسها إلى كتفي، وقضت كذلك لحظة ما نسيت ولن أنسى عذوبتها.." ولكن أية عذوبة لن تنساها آمنة؟! والأختان في موقف يثير الألم المر. والذي نعرفه عند كبار الكتاب هو الإيجاز في المواقف الحرجة. وأنا أذكر لفلوبير أمثلة عديدة لهذه المواقف. منها قوله في "قلب ساذج" عن أم ماتت ابنتها: "وسارت الجنازة وصعدت مدام أوبان إلى العربة وأرخت الستائر السود" تاركا لنا أن نتصور مبلغ الحزن الذي أخفته تلك الستائر، ومنها قوله عن القديس جوليان الذي قتل أمه وأباه خطأ فلبس مسوح الرهبان: "وسارت الجنازة وكنت ترى رجلا في مسوح راهب يتبع الموكب من مسافة بعيدة منكس الرأس".

وكذلك موقف آمنة وأختها، فقد كنا ننتظر من المؤلف أن يتكفي بأن يشعرنا بما أضنى الأخت المنكوبة من إعياء: "فألقت برأسها إلى كتف أختها" ثم يتركنا نتصور الباقي. وباستطاعة القارئ أن يقارن كذلك بين وصف المؤلف لهذيان آمنة ووصف فلوبير أيضا لسان جوليان ويكفيه ليدرك ما ندعو إليه من وجوب الاعتدال والتركيز أن يوازن بين "ينبوع الدماء"، الذي رأته آمنة في هذيانها و"نقط الدم الصغيرة" التي رآها جوليان تقطر من فراش أبويه عند قتله لهما فلازمته أشباحهما أنَّى ذهب.

<<  <   >  >>