بالغ الفقر، ولقد كان المصريون يبغضون الإغريق والرومان قدر بغض هؤلاء لهم، ولم يحدث قط أن امتزج الشعبان، كما امتزج المصريون والعرب فيما بعد.
وفي الحق إنها الظاهرة عجيبة، فألف عام كانت كفيلة بأن تبذر بذور الثقافة اليونانية في بلادنا، ولكننا لا نجد أثرا لتلك البذور، ولقد انقضى ذلك الزمن بفتح العرب لمصر، وإذا بنا نرى الدواوين تعرَّب بعد ستة وستين عاما فقط من هذا الفتح، وسرعان ما اختفت اللغة الإغريقية بل واللغة المصرية، وأصبحت مصر بلدا عربيا وإسلاميا. ولكنه إذا كانت مصر لم تتأثر باللغة الإغريقية عن طريق مباشرة، فإنها لا ريب قد ورثت هذا الأثر فيما ورثت هذا من ثقافة العرب، ومن المعلوم أن العرب قد نقلوا فلسفة اليونان وبخاصة فلسفة أرسطو ودرسوها، بل نموها ثم أعادوها إلى أوربا خلال القرون الوسطى.
ورثت مصر إذن الفلسفة الإغريقية مع ما ورثت من تراث عربي، ولكنها لم تضف إلى هذا التراث خلقا جديدا يعتد به. فليس لدينا فلاسفة مصريون، نذكرهم مع الفاربي أو ابن رشد أو الغزالي.
والأمر في الأدب كالأمر في الفلسفة، فأدبنا المصري العربي قد انفصل عن التفكير الإنساني؛ بل الحياة الإنسانية بمعناها العميق.
ولقد استمرات تلك الحالة إلى سنة ١٧٩٨، وتلك سنة خطيرة في تاريخنا السياسي والروحي معا؛ وذلك لأننا خرجنا فيها عن وحدتنا وابتدأنا نتصل بأوربا ونفتح نوافذنا على العالم الحي. لقد كان للحملة الفرنسية في حياتنا من هذه الناحية أبلغ الأثر. ولا شك في أنها كانت من الأسباب التي وجهت نظر محمد علي إلى الغرب عامة وفرنسا بنوع خاص، فأوفد إليها البعثات، وكانت حركة مباركة في الترجمة، نهض بها رفاعة الطهطاوي وتلاميذه في مدرسة الألسن، ولقد استمرت تلك الحركة إلى يومنا هذا، بل لعلها أخذت في التزايد، كما انتشرت معرفة اللغات الأجنبية بيننا حتى رأينا من شعرائنا وكتابنا من يجيدها كشوقي وإسماعيل صبري وغيرهما؛ ولكنه بالرغم من ذلك لم تتغير حياتنا الروحية الثقافية حتى السنوات الأخيرة تغيرا يذكر، والسبب في ذلك هو أن اتصالنا بأوربا قد تم على نحو ما اتصل العباسيون بالثقافة الإغريقية، فالذي استطعنا أخذه إنما هو التفكير الأوربي، وأما الأدب وغيره من الفنون فذلك ما لم نستطع أن نتمثله، والذي لا شك فيه أن التفكير المجرد لا يكفي لأن يكون منبعا لثقافة جديدة دائمة التدفق. والأدب والفن على العكس من ذلك خليقان بأن يفجرا في النفس ينابيع جديدة؛ وذلك لأن تمثلهما معناه تمثل نوع جديد