للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك البيت الرائع! وهذا رجل نشر الحزن بنفسه ظلاما لم يلبث أن غشي بصره، فللنجوم أن تتلألأ دون أن يرى لها بريقا:

من الألحان لا أدري ... سوى أنشودة الصبر

أغنيها من القهر ... لطفل بات جوعانا

هؤلاء قوم ليسوا ضعافا، إنهم يسمون الأشياء بأسمائها، قوم لا ترهبهم الألفاظ، يتغنى الشاعر "من القهر" لجوع طفله، ولكن مَنْ منا لا يحس أن هذا القهر ليس يأسا وإنما هو استجمام للتوثب؟ من منا لا يحس بنفس الشاعر العاتية متحفزة خلف هذا القهر الإنساني؟! ليس الأدب ألفاظا، الأدب روح لا تدري من أين تطالعك، روح لا تدركها إلا الأرواح!

ملاك الرب في الحلم ... يناجي الطفل كالأم

يناديه من النجم ... ألا نم! وقتنا حانا

قلت فيما سبق: إن شعراء المهجر يصدرون عن قلب فيه لهفة إلى الله، ولو أنني قلت: إنهم متصوفون لما عدوت الحق، فالتصوف ليس إلا وقدة في الإحساس، كل شعور قوي تصوف مهما كان موضوع ذلك الشعور؛ ولهذا نرى الناس يقتتلون في غير مقتل حول تصوف شاعر كالخيام: أمادي هو أم روحي؟ وهل خمره خمر الدنان أم خمر الروح؟ والأمر بعد سواء، الخيام روح حارة، وكذلك الأمر عند شعراء المهجر. أين منهم فتور أغلب شعرائنا؟ أين منهم فقرنا الروحي؟ أين منهم ضعف نفوسنا؟ أين منهم نفاقنا الخلقي؟! أنظر إلى شاعرنا كيف يجمع بين القيم الإنسانية في ملاك الرب الذي يناجي الطفل كالأم، أليس حنان الأم نفسا من روح الله؟ أوما تراه يشبه الهمس؟! الفن اختيار، وهؤلاء الشعراء يعرفون كيف يختارون التفاصيل الدالة الغنية بفيضها الإنساني.

يناجيه بأيام ... سيأتي خيرها طام

سيروي ماؤها الظامي ... ويشفي النور عميانا

وفي شفاء النور للعميان ما يعزز فهمنا لإطفاء ظلمة الليل لنجوم السماء، ثم ما القول في هذا الأمل الباسم؟ عيجب أمر هؤلاء الشعراء! يبتسمون للأمل، ومع ذلك تهزنا ابتسامتهم! وكأني بها تبعث الحزن في النفس، وهي بعد ابتسامة تشرق وسط الظلام، ابتسامة يحوطها الحزن، أولا ترى معي شاعرنا وهو يشد على نفسه فيعزيها بأيام سعيدة؟ إنني أحس بالجهد في تلك الابتسامة الرائعة، وبعد ذلك يقول قائل: إن أدبهم ضعيف، وإننا في حاجة إلى أدب طروب قوي. ومن يستطيع أن

<<  <   >  >>