للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذا هو الأديب كما أظنه. وأما من يدعون الأدب بغير رسالة تطرب بها نفوسهم فتلك أرواح خلقت خطأ كما خلق أكثر الناس بغير سبب، ولا مبرر، إلا إتلاف الحياة على من يستحق الحياة.

رأيت بمسرح الأديون بباريس رواية لإبسن lpsen هي رواية "بيرجنت" Pyr Gynt موضوعها خيالي استقاه المؤلف من أساطير البلاد الشمالية، ووضع لبعض أجزائها الموسيقى جريج Greeg ما زاد في دلالتها من ألحان، والذكرى التي علقت بنفسي منها هي ذكرى أحد أشخاصها الوهميين، وقد سار على المسرح وبذراعه سلة وبيده الأخرى "مجراف" وقد أخذ يجرف من يلقاه من الناس الذين خلقوا خطأ، يلقيهم بالسلة ليعود خلقهم من جديد رحمة بهم وبغيرهم ممن يشاركون في صفة الإنسانية.

وكلما فكرت في أمر الأدب أو الفن عندنا عاودتني تلك الذكرى، وبودي لو ساقت هذا الرجل قدماه إلى بلادنا. فما أشك أنه واجد ما يملأ أضعاف سلته.

فالأدب عندنا يزجيه فراغ أو احتيال على العيش، وفي هذا امتهان لحياتنا لا حد له، وهو إن سعى إلى غاية جاءت غايته حقيرة، فمن قائل: إنه منبر وعظ سبيل إرشاد، ومن قائل: إنه مصري أو يجب أن يكون مصريا، والكل يجمع على ضرورة تيسيره لكافة الناس حتى نكسب من ورائه المال.

وأنا بعد أعلم أننا بوجه عام لم نزل في حالة فطرية حيث تقاس الأشياء بما تعود به من نفع مادي أو معنوي مباشر، وأنه لا بد لنا من زمن حتى نصل إلى تفدير الحق والجمال في ذاتهما.

ولكن أما لنا أن نحاول بسط أجنحتنا؟ وشباب هذه الأمة يحتفز نشاطا، فما له لا يأخذ عدته، فيبحث وينقب عما نشير إليه، يغني بتفاصيله نفسه؟

فرجاؤنا إلى الشباب اليقظ أن يرجع إلى ما يشير إليه الكاتب، فيستوعبه ليرى أثره العام في نفسه، وليذكر مثل هذا الشاب أن الثقافة الحقيقية "هي ما يبقى في النفس بعد أن نسى ما حصلنا"، وهذه الثقافة هي ما نحاول أن نمده بها، وإن يكن ذلك غير منغنيه عن الرجوع بنفسه إلى كتب البسط، فمهمتنا ليست في ذلك، وإنما هي في تعليمه كيف يجد نفسه.

الأدب عسر لا يسر، وما ينبغي أن يكون غير ذلك، على أنك مجازي بغير ريب عن جهدك، فسترى أمامك عوالم لم تحلم بها من قبل، وسيأتي يوم يخيل إليك فيه بمجرج نظرة -أنك تشق الحجب فترى في النفوس ما تكنه من جمال أو قبح، كما سترى خلف الأشياء ما فيها من حق أو باطل، وأي كسب يعدل كسبا كهذا؟ وأي معنى للحياة بغير الفطنة إلى أسرارها وغاياتها؟

<<  <   >  >>