للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا قول يبدو سليم المنطق، ولكنك ما تكاد تمعن النظر حتى تحس بوهنه؛ وذلك لأن كل حكم قيمي لا بد راجع إلى حكم واقعي، فالناقد الذي يحتمي وراء ما يسميه ذوقه الخاص إنما يحيلك في حقيقة الأمر على مجموعة من الآراء السابقة المقررة، التي تبلورت في نفسه بوعي منه أو على غير وعي، بحيث نستطيع أن نقول: إن الذوق ما هو إلا راسب من رواسب العقل الخفية.

يقسم ابن قتيبة الشعر -مثلا- إلى أربعة أضرب: ضرب حسن لفظه وجاد معناه، وضرب حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، وضرب جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، وضرب تأخر معناه وتأخر لفظه. وفي تلك التقاسيم والألفاظ ما يدل على أحكامه قيمية، بدليل قوله "حسن" "جاد" "وحلا" و"قصر" "وتأخر"، وهي أحكام مطلقة إذا لم يعلقها على توافق بين لفظ ومعنى أو بين قائل ومقول أو بين الشاعر وعصره، فهو إذن ناقد ذاتي.

ومع ذلك ما تكاد تمعن البصر حتى ترى أن أحكامه القيمية هذه تستند إلى حكمين تقريرين سابقين هما اللذان أملياها:

١-أولهما أن اللفظ في خدمة المعنى، وأن المعنى الواحد يمكن أن يعبر عنه بألفاظ مختلفة يحلو بعضها ويقصر الآخر.

٢- ثانيهما أنه لا بد لكل بيت من الشعر من معنى.

ولنناقش هذين الرأيين.

فأما اللفظ في خدمة المعنى أو للعبارة عنه فنظر جزئي هو الذي تلف ذوق ابن قتيبة على غير وعي منه، بل هو إحدى تلك المسلمات التي أفسدت الكثير من أدبنا العربي ومن نقد نقادنا؛ وذلك لوجوب التمييز بين نوعين من الأساليب:

١- الأسلوب العقلي الذي نستخدمه في العلم والتاريخ والفلسفة وأدب الفكرة إن صح أن يسمى ذلك أدبا. وعلى هذا الأسلوب تصدق وجهة نظر ابن قتيبة؛ إذ اللفظ عندئذ لا يقصد منه إلى غير العبارة عن المعنى، بل نحن نذهب إلى أبعد مما ذهب إليه العرب، فنقول: إن المعنى الواحد لا يمكن أن يعبر عنه إلا بلفظ واحد، فاللغات لا تعرف -ولا يجب أن تعرف- الترادف. وأمر الألفاظ كأمر الجمل، فالكاتب الحق هو الذي لا يطمئن حتى يقع على الجملة الدقيقة التي تحمل ما في نفسه حملا أمينا كاملا، بحيث تصبح العبارة كجسم حتى لا يمكن أن ينتقص منه أو يزداد عليه شيء. والتحدث عندئذ عن العلاقة بين اللفظ والمعنى كالتحدث عن شفرتي مقص، والتساؤل عن جودة أحدهما

<<  <   >  >>