للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقد دل الحديثان على أن هناك نوعا من جرائم القتل يسمى شبه عمد، وهو ما كان ناتجا عن آلة لا تقتل غالبا كالسوط أو العصا، وأن عقوبته هي الدية لا القصاص، وأن هذه الدية مغلظة مثل دية القتل العمد، وليست كدية القتل خطأ، وبذلك تكون السنة قد جاءت ببيان حكم القتل شبه العمد، بجانب ما أثبته كتاب الله تعالى من بيان حكم القتل عمدا والقتل خطأ.

وأما الإجماع: فقد نقل السرخسي في مبسوطه اتفاق الصحابة -رضوان الله عليهم- على القول بشبه العمد؛ حيث أوجبوا فيه الدية مغلظة مع اختلافهم في صفة التغليظ، وسيأتي بيان ذلك في عقوبة شبه العمد.

الترجيح:

وبهذا يتبين لنا صحة هذا الرأي ورجحانه؛ لأنه من المنطقي عقلا وشرعا أن يكون هناك تفاوت في العقوبة بين جريمة من يتعمد القتل بأسبابه التي تؤدي إليه قطعا أو غالبا، وبين جريمة من يقصد الضرب لا القتل بأسباب لا تؤدي إلى القتل قطعا أو غالبا؛ إذ الأول أخطر فيجب أن يردع، وردعه يكون من جنس فعله الذي قصده، أما الثاني فإن خطره محدود جدا؛ لأنه ما كان يقصد القتل، وإنما حدث القتل خروجا عن المعتاد والمألوف، فكان من الواجب أن تكون عقوبته متكافئة مع قصده، وخير مقياس لهذه المكافأة بين جريمته وعقوبته هو ما وضعه الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- من إسقاط القصاص منه وتغليظ الدية عليه، وما يتبع ذلك من عقوبات أخرى -سيأتي إيضاحها- لأنه قصد الضرب عدوانا.. وقد صحح الإمام القرطبي هذا الرأي قائلا: "هو الصحيح، فإن الدماء أحق ما احتيط لها؛ إذ الأصل صيانتها في أهلها، فلا تسبتاح إلا بأمر بين لا إشكال فيه، وهذا -أي شبه العمد- فيه إشكال؛ لأنه لما كان مترددا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد، فالضرب مقصود، والقتل غير مقصود، وإنما وقع بغير قصد فيسقط القود وتغلظ الدية، وبمثل هذا جاءت السنة".

<<  <   >  >>