للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عجزهم عنها، لكن بسبب خارجي عن القرآن، وهو وجود مانع منها قهرًا، ذلك المانع هو حماية الله لهذا الكتاب, وحفظه إياه من معارضة المعارضين وإبطال المبطلين، ولو أن هذا المانع زال لجاء الناس بمثله؛ لأنه لا يعلو على مستواهم في بلاغته ونظمه"١.

وهذا القول بفروضه التي افترضوها، أو بشبهاته التي تخيلوها، لا يثبت أمام البحث، ولا يتفق والواقع.

أما الفرض الأول: وهو أن بواعث المعارضة ودواعيها لم تكن متوفِّرة لديهم، فإن القرآن ينقضه، فقد تحداهم الله بأن يأتوا بسورة من مثله، فلو كانت البواعث والدواعي غير متوفرة لديهم، ما جاز أن يتحداهم؛ فإن التحدي حينئذ يكون عبثًا، والعبث على الله محال.

"وكيف يُقَال: إن الدواعي والبواعث لم تكن متوفِّرة لديهم وهم أساطين البلاغة، وملوك الفصاحة والبيان، وصناعتهم الكلام، وهم أهل حمية ونعرة جاهلية، لا يصبرون على التحدي والاستفزاز.

وقد كان من عادتهم أن يتحدى بعضهم بعضًا في المساجلة والمقارضة بالقصيد والخطب، ثقة منهم بقوة الطبع، ولأن ذلك مذهب من مفاخرهم يستعلون به، ويذيع لهم حسن الذكر، وعلوّ الكلمة، وهم مجبولون عليه فطرة، ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ومجامعهم, فتحداهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه, وسلك إلى ذلك طريقًا كأنها قضية من قضايا المنطق التاريخي، فإن حكمة هذا التحدي وذكره في القرآن إنما هي أن يشهد التاريخ في كل عصرٍ بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللد، والفصحاء اللسن، وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه، ولا خير منهم في الطبع والقوة، فكانوا مظنة المعارضة والقدرة عليه, حتى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن مولَّد أو أعجمي أو كاذب أو منافق، أو ذو غفلة، فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله، وأنه غير معجز، وأن عسى أن لا يعجز عنه إلا


١ انظر مناهل العرفان ج٢ ص٣١٠، ٣١١.

<<  <   >  >>