للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وربما اربت المدة التي قضاها السياب في بيروت على ثلاثة اشهر، وقد أكد كثير ممن رأوه حاله التداعي والضعف البالغ والإعياء والاضمحلال الذي يبلغ حد التلاشي؛ قال الأستاذ أميل يوسف عواد: " ذات يوم من سنة ١٩٦٢ دعاني صديقي الدكتور جميل جبر ممثل المنظمة العالمية لحرية الثقافة إلى حفلة كوكتيل تقام في مكاتب هذه المنظمة في بيروت؛ وفي هذه الحفلة تعرفت على بدر شاكر السياب الشاعر العراقي وكانت هي المرة الأولى التي شاهدته فيها، ولن أنسى تلك اللحظة التي أطل بها بدر علي، فقد تمثلت أمامي مآسي الإنسانية كلها: الفقر والمرض، الظلم والحرمان، الاستعباد والاضظهاد، ذلك لانني رأيت بدرا ينوء تحت حمل ثقيل منها، ووجدته كتلة هزيلة من الجلد الأسمر الباهت والعظام المنهارة؟ " (١) وقال الأستاذ أنسي الحاج: " كان ينقل ويحمل ويقذف كالمربوط بالجنزير، كالملفوف بالأقماط، يضؤبه الهواء من ظهره فيدفعه إلى الأمام، وحين تكون الضربة ضعيفة لا تمشي قدماه فيقف ويظل واقفا حتى تأتي ضربة الهواء أقوى؟. كنت أمشي معه مرة في بيروت، ساحة رياض الصلح. خجلت أن أعطيه ذراعي فاستعمل الحيطان؛ لم يكن يمشي، كان يستسلم للفراغ فيشيله؟. وكان لا ينقطه عن الحكي الضائع، ليس هذيانا ولكنه إغماء على الكلام؟. وكان لا ينقطع عن إبداء الود والتعبير عن العواطف الجياشة وارتجال الشعر واستذكار الشعر ولوم الشعراء وفلش حرقة قلبه على أصدقائه الشيوعيين الذين رافقهم مدة ثم تخلى عنهم وكأني به وهو يبدي حرقة قلبه عليهم، يخفي حرقة قلبه من نفسه وعلى نفسه لأنه تخلى عنهم تاركا ما كان يؤمن به إلى ما لا حاجة للأيمان به " (٢) .

وأحس بدر في بعض لحظاته في بيروت أن النهاية وشيكة فكتب


(١) أضواء: ٤٣.
(٢) أضواء: ٣٤ - ٣٥.

<<  <   >  >>