للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

" اعلم أن مجلس الشراب أولى بالسماع من جميع ما عداه من سائر المجالس، وإنه يسيغ الشراب ويشيعه تشييعاً عجيباً حتى يحس سريانه في الجسم وأثره فيه، ولهذا قالت الحكماء: السماع إدام المدام " (١) . وهو مؤرخ اجتماعي حين يحدثنا إن " عوائد الناس الابتداء بالغناء في مجلس الشراب مختلفة، أما أهل المشرق من ملوك العجم وملوك العرب في هذا التاريخ، فإن العادة عندهم أن الملك إذا اخذ القدح في يده ابتدأ المغني في الغناء بغير أمر له بذلك، كأن أخذ الملك للقدح دستوره في الغناء، فإذا ابتدأ المغني بالغناء وضع الملك القدح ثم يستمع ويشرب في وسط ذلك الغناء، وأما ملوك المغرب ورؤساؤه فإنهم يشربون في أول المجلس ساعة على الحديث أو المذاكرة بغير غناء، فإذا أراد صاحب المجلس الغناء نقر بالستارة إن كانت خشباً أو تنحنح أو أبدى إمارة؟ الخ " (٢) .

وكان التيفاشي متنوع الثقافة حتى ليصدق فيه ما قاله التوحيدي في زيد بن رفاعة: " اينسب إلى شيء ولا يعرف برهط لجيشانه بكل شيء وغليانه في كل باب " (٣) أعني أنك تجده طبيباً بين الأطباء، وفلكياً بين الفلكيين، وموسيقاراً بين الموسيقيين، مثلما تجده شاعراً وناثراً، ولكنك لا تستطيع أن تقول إنه تميز في شيء أو نال فيه تفوقاً. كان كثير المطالعة، ولهذا تجده يقول في بعض المواقف: " إني امرؤ استنبطت العلوم وحذقت النجوم وطالعت جميع الكتب من العلوم بأسرها على اختلاف أجناسها وأصنافها " (٤) ، ومع ذلك فلم تكن المطالعة مصدره الأهم في المعرفة، بل ربما كان أهم منها المعرفة التي حصلها عن طريق السماع والمشاهدة والاختبار العملي، وأعانه على ذلك دقة في الملاحظة، ومسارعة إلى تقييد ما يلاحظه أو يسمعه أو يجري فيه اختباراً، تستوي في ذلك بسائط الأمور ومعقداتها. يقول " وقد كان عندي حجر بازهر خالص حيواني فجعلته في كيس فيه دنانير ذهب، ثم سافرت سفراً بعيداً، فلما استقرت فتحت الكيس وأخرجت حجر البازهر فلم أعرفه، حتى ظننت أنه قد بدّل علي بتغير جميع صفاته، ثم وزنته فوجدته أقل مما كان، فزاد تشككي، ولم يكن معي من اتهمه فعجبت من ذلك وبقيت متحيراً في أمره، ثم جعلته في حق صغير بعد أن لفقته بابريسم، وغفلت عنه مدة، ثم


(١) متعة الأسماع (نسخة الخزانة العاشورية) - الباب الثاني، الورقة: ٦.
(٢) متعة الأسماع؛ الباب الرابع، الورقة: ٨.
(٣) الإمتاع والمؤانسة ٢: ٤.
(٤) نزهة الألباب: ٨.

<<  <   >  >>