للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفيما هو آخذ في ترتيب شؤون الرحلة رأى فيما يرى النائم كأنه جالس وبين يديه ثلاثة سرج موقودة، وإلى جانبه زوجته أم أولاده، وهي تنفخ إلى أحد السرج لتطفئه، قال: " فأدركني عليها غيظ شديد، ونهيتها عن ذلك، فألحت في النفخ عليه، فاضطربت من الغيظ وقلت لها: إن طفيتيه فأنت طالق، فقامت فنفخت في السرج الثلاثة فأطفأتها وبانت بالطلاق، ولم أكن قبل ذلك جرى على لساني للطلاق ذكر، ولا حدثت نفسي بطلاقها قط، ولا حدثت نفسها في خلاف أمر آمرها به قط، وكان لي منها ثلاث بنين؟ " (١) ويبدو أن التيفاشي لم يعر هذه الرؤيا اهتماماً حينئذ، وأن معرفته بالتعبير كانت محدودة أو معدومة، ولكن الأحداث التالية بدأت تربط نفسها بهذه الرؤيا ربطاً وثيقاً، إذ بعد أيام قلائل من تلك الرؤيا توفيت الزوجة (فبانت بينونةً تامة) ، ولم يثنه حزنه عليها عن عزمه على الهجرة، بل لعله وضعه في حال نفسية حرجة تستدعي النأي عن قفصة، " فباع أملاكه وما يثقل عليه حمله " واتخذ لنفسه مركباً، وشحنه بما تبقى من متاعه، وحمل فيه أبناءه الثلاثة، وأقلع قاصداً الإسكندرية (٢) . وفيما هو بحذاء ساحل برقة، هبت على المركب ريح شديدة حطمته فغرق أولاده الثلاثة ومعظم ما معه من المتاع، ونجا هو بحشاشة نفسه على لوح من خشب، واستنقذ عرب برقة بعض متاعه، وأخذوا المتاع معهم ليبيعوه في إسكندرية، فوجد الفرصة سانحة لمرافقتهم، ولكنه خاف أن هو أعلن أنه صاحب ذلك المتاع أن يقتلوه طمعاً في الاستيلاء على أمواله، فصاحبهم متنكراً - يعني يخفي حقيقة شخصيته - وكان إذا تذكر هذه الحادثة من بعد روى أن عرب برقة سألوه: من هو ومن أين هو وما صنعته. فأخبرهم أنه قواد، فقالوا: الله الأحد - كلمة تدل على نفورهم منه ومن صنعته - وكانت أنفتهم منه سبب خلاصه منهم، حسب تقديره (٣) .

ويبدو أنه اتخذ نفورهم منه ذريعة للانفصال عنهم، بعد أن أصبحت الإسكندرية قريبة، فأغذ إليها السير وحده ووصلها قبلهم، وصنع مقامة يذكر فيها ما جرى في طريقه، وبلغ النبأ مسامع الملك الكامل أبي المعالي محمد بن الملك


(١) الفقرة: ١٢١٩ وانظر ورقات ١: ٤٤٩.
(٢) بغية الطلب ٢: ١٦٠ وقد ذكر ابن العديم أنه أيضاً حمل زوجه معه في المركب، وهذا مناقض لما قاله في ((سرور النفس)) من أنها ماتت قبل الرحيل، إلا أن نفترض أنه كانت له زوجة أخرى وهذا أمر غير مستبعد.
(٣) بغية الطلب ٢: ١٦٠.

<<  <   >  >>